خلال عضويتي في لجنة تحديد مستقبل التجارة التابعة لمنظمة التجارة العالمية في جنيف (2012) وفي المجلس التنفيذي لغرفة التجارة الدولية في باريس (2006-2009)، كانت السياسات التي تدعم التجارة متعددة الأطراف على رأس جدول الأعمال، مما شجع روح التعاون والصداقة بين الدول. وقد جلبت تعددية الأطراف معها قدرًا كبيرًا من الفوائد، حيث سهّلت التجارة الدولية من خلال تطبيق نفس اللوائح لجميع الدول الأعضاء، وتوحيد العالم في صف واحد فيما يخص عددًا من القضايا بما في ذلك الأمن المشترك وحقوق الإنسان وتغير المناخ وغيرها، من خلال اللوائح المتفق عليها، وألزمت هذه السياسات الدول القوية باتباعها بينما أعطت الدول الأصغر صوتًا ونفوذًا لم تكن لتمتلكه لولا ذلك.
يمر نظام التجارة العالمي متعدد الأطراف حاليًا بتحول كبير حيث تقوم الولايات المتحدة بتغيير سياساتها التجارية لمواجهة الصين وتعزيز أجندتها الاقتصادية الخاصة. وهذا يفرض تحديات وفرص كبيرة أمام البلدان النامية، التي يتعين عليها أن تستكشف هذا المشهد المتغير وتحمي مصالحها.
وتعد إحدى القضايا الرئيسية التي تشغل الدول النامية هي أن الولايات المتحدة ستدير ظهرها للنظام التجاري متعدد الأطراف الذي حكم التجارة العالمية لعقود من الزمان، متخذة موقفًا أحاديًا لأن موقعها يتعرض لتهديد أكبر مع صعود العملاق الصيني. لقد قوضت الولايات المتحدة بالفعل منظمة التجارة العالمية وفرضت تعريفات وعقوبات على الشركات الصينية وتتوقع من الدول الأخرى أن تحذو حذوها وتحد من علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الصين. قد يجبر هذا الدول النامية على اختيار جانب في هذه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، مما قد يهدد إمكانية وصولها إلى الأسواق والتكنولوجيا. من الواضح أن الولايات المتحدة تحاول أن تشق طريقها بقوة للخروج من هذه المعركة التي سينتج عنها تداعيات تؤثر على دول أخرى.
ويتمثل التحدي الآخر الذي يواجه البلدان النامية في أن السياسات التجارية للولايات المتحدة مدفوعة بأهدافها الاقتصادية الجيوسياسية والمحلية، والتي قد لا تتماشى مع مصالح البلدان النامية. تريد الولايات المتحدة مواجهة الصعود التكنولوجي للصين وحماية أمنها القومي، فضلاً عن تعزيز صناعاتها المحلية وعُمالها. وقد تتعارض هذه الأهداف مع الاحتياجات الإنمائية للبلدان النامية التي تعتمد على تدفقات التجارة والاستثمار لتحقيق النمو والابتكار. ويعد تحالف بريكس المتنامي مثالًا واضحًا على ذلك حيث لا تتطابق أجندة العديد من دول الجنوب العالمي مع أجندة الولايات المتحدة وحلفائها، بعد تهميشها أو تجاهلها تمامًا لعقود واعتبار مصالح دول الشمال العالمي هي الأولوية.
ومع استمرار هذا الوضع على المسرح العالمي، أرى أن البلدان النامية لديها فرصة لتشكيل مسارات التنمية الخاصة بها في مثل هذه البيئة التجارية المتغيرة؛ حيث لا ينبغي أن تعتمد فقط على النظام التجاري متعدد الأطراف في رحلتها التطويرية، بل ينبغي أن تتبع استراتيجياتها وسياساتها الخاصة، بما في ذلك تنويع شركائها في التجارة والاستثمار، وتعزيز تكاملها الإقليمي، ودعم القدرات المحلية، والاستفادة من صوتها الجماعي في المنتديات العالمية.
يواجه نظام التجارة العالمي منعطفًا حرجًا حيث تغير الولايات المتحدة سياساتها التجارية لتتحدى الصين وتعزز مصالحها الخاصة. لذا يتعين على البلدان النامية التكيف مع هذا الواقع الجديد وحماية آفاق تنميتها. ويجب عليهم صياغة مسارات التنمية الخاصة بهم بدلاً من الاعتماد فقط على نظام التجارة متعدد الأطراف، حيث أن الولايات المتحدة - التي كانت ذات يوم أكبر مؤيد للتعددية - بدأت الآن في اتخاذ اتجاهات مختلفة.