العدد 5398
الأربعاء 26 يوليو 2023
banner
الخوف من الآخر وصعود الشعبويات
الأربعاء 26 يوليو 2023

هل الخوف من الآخر هو أحد أهم أسباب تنامي الشعبويات حول العالم، وهو الذي مهد لعدد من رموز من نصفهم باليمين الأوروبي المتطرف، الصعود إلى مراكز الحكم المتقدمة في ألمانيا وهولندا وعدد من الدول ذات مستوى الحياة المتميز "الاسكندنافية"، بل هو الذي دفع البريطانيين إلى مسار البريكست والابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، وأخيرا تسبب في ظاهرة العداء للإسلام التي تمثلت في حرق نسخ من المصحف الشريف؟
خذ إليك دولة مثل إيطاليا على سبيل المثال، تلك التي تعتبر الأقرب إلى العالم العربي، والشرق الأوسط، وربما كانت أقرب دولة وأكبر دولة تعرضت لموجات من الهجرة غير الشرعية، أو تلك التي تسببت فيها ارتدادات ما عرف زوراً بالربيع العربي، وتابع ما يحدث في داخلها على أكثر من صعيد. 
قبل فترة اعترف الصحافي الإيطالي "إرنيستو غالوديلا لوجيا"، الكاتب في صحيفة "كوريري ديلا سيرا" بقلق ينتابه، فهو على حد تعبيره، ولد كإيطالي، لكنه لا يعرف هل سيموت كإيطالي، فالبلاد تتغير بسرعة، وذلك نحو ما هو سلبي، وهذا التحول يربطه "ديلا لوجيا"، بأشياء صغيرة، مثل عدم مشاركة فيلم إيطالي في مهرجان "كان" السينمائي عام 2017، لأول مرة على الإطلاق في تاريخ المهرجان، وتضاف إلى ذلك سلسلة من الظواهر الجديدة، مثل اقتصاد راكد، ومداخيل ضعيفة وشوارع في وضع سيئ، ووسائل نقل عمومية متردية، وعدم كفاءة البيروقراطية، والقائمة طويلة.. هل هي إذا ساعة الشعبويين التي تدق في ذلك البلد المعروف بانفتاحه على الشعوب القريبة لاسيما المتوسطية منها؟
غالب الأمر ذلك كذلك سيما أن أحوال الأحزاب السياسية التقليدية تتردى إلى أسوأ وضع، وعليه يبقى المواطنون مدفوعين بالاستياء والحقد، وأحياناً بالضغائن والأحقاد، وهؤلاء وأولئك يتلقفهم الشعبويون فريسة سهلة.. كيف لنا أن نفهم هذه الظاهرة؟ الشاهد أنه حتى نضع أيادينا على بعض أعماق الظاهرة الشعبوية القاتلة، سيما تلك التي تدعي التمثيل السياسي الأخلاقي أو الحصري، أي المعروف بـ "نحن من يمثل المئة في المئة"، لابد من طرح سؤال: "كيف نعرف الشعبوية بدقة؟ وأين تمر الحدود الفاصلة بين الشعبوية والظواهر السياسية الأخرى؟ يمضي علماء الاجتماع الألمان بنوع خاص إلى القول إن الشعبوية ليست مطلباً لطبقات واضحة المعالم، وليست قضية عاطفية، كما أن قيمة العروض السياسية لا تكفي لقياس ما إذا كان شيء ما شعبوياً.
من هنا فإن البعض يخلص إلى أن الشعبوية تصور سياسي محدد، يرى أن شعباً خالصاً ومنسجماً يقف دائماً ضد نخب غير أخلاقية، فاسدة وطفيلية، ويرى أن هذه النخب لا تنتمي البتة إلى الشعب. 
من أمثلة ضيق المسار الشعبوي ما جرى ويجري في دولة مثل فنلندا، وكيف بات هناك سباق وسياق للتفريق بين "الشعب الحقيقي"، و"الشعب العادي"، الأمر الذي نراه منعكساً بقوة في أسماء الأحزاب، فالحزب الفنلندي ومعنى اسمه "الفنلنديون العاديون"، كان يريد أن يترجم إلى اللغات الأخرى بـ "فنلنديو القاعدة"، أو "الفنلنديون الحقيقيون"، والآن يريد الحزب أن يترجم اسمه فقط إلى "الفنلنديون".
هنا تظهر لنا على السطح إشكالية أخرى، فالنخب وخاصة في تصور الشعبويين اليمينيين، تدخل في تحالف مشؤوم مع الطبقات الطفيلية، والتي لا تنتمي إلى الشعب الحقيقي، ويمكن أن نلاحظ مثالاً على هذه الرؤية اليوم في شرق أوروبا، حيث يتم دعم الغجر، في الرؤية الشعبوية، من طرف نخب ما بعد الشيوعية المناصرة لأوروبا.
هل من خلاصة للمشهد الأوروبي؟
المؤكد أن الحديث يحتاج إلى الكثير جدا من التفصيلات، عطفا على التوقف عند دول أخرى أوروبية، لكن في كل الأحوال يمكننا القطع بأن الديمقراطيات الغربية أمام استحقاق تاريخي ومفصلي، فإما التمسك بالأنساق الإنسانوية التنويرية، الديمقراطية الليبرالية، رغم سلبياتها المعتادة، أو ترك الساحة فارغة للشعبويين الذين يدعون أنهم وحدهم القادرون على الوفاء بالوعد الأصلي للديمقراطية المتمثل بتحقيق الاتونوميا الجمعية، وهم عاجزون عن ذلك.


كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .