العدد 5398
الأربعاء 26 يوليو 2023
banner
طه حسين ناقداً وشاعراً
الأربعاء 26 يوليو 2023

سبق أن ذكرنا باقتضاب في عجالة أن إسهامات طه حسين كانت محدودة في الأجناس الأدبية، لكن وجب التنويه لم نكن نقصد أنها محدودة بالمفهوم المطلق للمعنى، وإنما لم يكن غزير الإنتاج في مجالات القصة والرواية، رغم أنه له في كل منها نصيب متميز، في حين أنه في النقد الأدبي يتسيد هذه الساحة بلا منازع، ولاسيما في النقد الشعري. ومع ذلك فقد كان شعره على درجة لا بأس بها من الجودة، ولعل عدداً غير قليل من الكتّاب والمثقفين المصريين والعرب اعتقدوا بأن طه حسين كان شاعراً كبيراً في إبداع القصيد، ولربما استدلوا في ذلك أيضاً بوجود محاولات له من التجارب الشعرية في بواكير صباه وشبابه، وهم في هذا مُحقون لا ريب، لكن هذا لا يعني أنه كان شاعراً ضليعاً موهوباً في قرض الشعر، لا بل هو نفسه رفض - بشجاعة وتواضع- وصف نفسه شاعراً، أو أن ينعته الناس بذلك، رغم أنه كانت لديه قصائد وطنية وسياسية مهمة وجريئة، ومنها هجاؤه الحاد للاحتلال الإنجليزي، وفي رثاء أُم الشيخين المستنيرين علي ومصطفى عبدالرازق، وكذلك والدهما، والأول هو صاحب الكتاب الشهير "الإسلام واُصول الحكم" الذي أثار ضجة من ردود الفعل في زمانه، بل مازال إلى يومنا هذا، بعد مماته، تهاجمه قوى الإسلام السياسي المتشددة، كما كانت لطه حسين أشعار سياسية وغزلية أخرى. وقد تم جمع كل قصائده وصدرت في كتاب. 
وفي الحوار التلفزيوني الذي أجرته معه نخبة متميزة من كبار الكتّاب والأدباء المصريين في منزله الذي أسماه "رامتان" والمتفرع من شارع الهرم، علّق على شعره قائلا: "هذا الشعر لم يكن طبيعياً، وإنما كان نزوة من نزوات الشباب، فلما عقلنا تركناه للشعراء"، ثم استطرد ضاحكاً، وكأنه يروي واحدة من الطرائف التي تتحدث عنه: ولن أنسى في إحدى المرات، أنني نشرت قصيدة، لعلها في صحيفة "مصر الفتاة" ولا أتذكر موضوعها، وقابلت الشاعر حافظ إبراهيم، وكان معه أديب اسمه رياض، فسأل هذا الأخير إبراهيم عما إذا قرأ هذه القصيدة لطه حسين؟ فأجابه بالإيجاب، ثم أستطرد سائلاً: أليست طويلة جداً؟ فرد إبراهيم: ليست طويلة، وإنما هذا كان مطلعها فقط. مهما يكن، فقد كان للعميد مطارحات نقدية أدبية بالغة الأهمية في تقويم أشعار كبار شعراء عصره، خصوصا الشاعرين الكبيرين، أحمد شوقي (أمير الشعراء)، وحافظ إبراهيم (شاعر النيل) .  
وعلى عكس النقد الأدبي السائد غالباً في عصرنا، الذي يتميز بقدر غير قليل من التفلسف وبكثرة زخرفته بالمصطلحات الغربية، سواء المكتوبة بحروف عربية، أم بلغة أجنبية غربية، بغرض التدليل على عظمة الناقد، فإن مطارحات طه حسين النقدية امتازت بالسهل الممتنع في الكتابة، جرياً على عادته التي اختطها منذ أن حمل القلم، إذا جاز لنا هنا المجاز ، كما تمتاز بالحجج الموضوعية القوية. وإذ تجده قاسياً صريحاً جداً في نقده، متجرداً من العواطف، فإنه يحاذر من إدخال البعد الشخصي-مدحاً أو قذحاً - إزاء أصدقائه أو مناوئيه. ويمتاز نقده بالمنطقية والذكاء وقوة المحاججة.وهو رغم نقده القاسي لأمير الشعراء وشاعر النيل، فإنه يكن لهما كل المودة والاحترام الشديد، ولعلك تلمس أن عواطفه للثاني أميل من الأول؛ لأسباب سنتناولها تحت عنوان آخر. 
وتتجلى عظمة طه حسين في امتلاكه ناصية النقد وأدواته المنهجية في نقده لشعر أمير الشعراء شوقي عندما يستسلم له الأخير مُقراً ضمنيا بصحة نقده، ولا يجد ما يرد به عليه سوى أن يطلب من رئيس تحرير جريدة "السياسة" محمد حسين هيكل، وهي الصحيفة التي كان العميد ينشر فيها مقالاته: "قل لصاحبك مهما، فعل فلن يستطيع هدمي…"، ولعل لسان حاله هنا يقول: لا أبالي من نقدك ما دمت قد نلت الإمارة الشعرية على العرب". ولم يكن العميد بطبيعة الحال في نقده المتجرد مغرضاً يهدف إلى النزول إلى هذا المستوى. وهو يأخذ عليه بأنه لم يكن يلتزم بحراً واحداً من بحور الشعر في القصة المسرحية، إذ يبتدئ على وزن، ثم لا يلبث أن يتحول إلى وزن آخر. ولم يكن حافظ إبراهيم أقل من شوقي في التهيّب من نقد طه حسين رغم ميله إليه كما أسلفنا، إذ زاره في إحدى المرات إبراهيم في بيته بمعية اثنين من أصدقائه، وعرض عليه آخر قصيدة ينوي نشرها، فلما فرغ من قراءتها على مسامعه، علّق العميد بأنها "حسنة"، وما كاد العميد ينطق بهذه الكلمة، حتى كاد الشاعر إبراهيم أن يطير من نشوة الفرح والحبور، ملتفتاً في الحال إلى صاحبيه: أسمعتما ماذا قال؟ اشهدا عليه. ولسنا بحاجة إلى الاستنتاج بأن رد فعله الفطري هذا إنما ينم من تخوفه الشديد المسبق بأن تتعرض القصيدة بعد نشرها لنقده القاسي، أو لعل العميد يبيت لها نقداً آخر بعد النشر، خشيةً من أن تكون كلمة الاستحسان تلك قد قالها من باب المجاملة. وأخيراً فلعلنا نجد أن لطه حسين رأياً مرناً متقدماً تجاه الشعر الحر: "ومن حق الأدباء أن يكتبوا شعراً مرسلاً متى شاءوا، بشرط أن يصلوا إلى درجة الشعر، ولم أنكر قط حرية الشعراء في أن يغيروا في أوزان الشعر، وفي أن يتركوا الأوزان القديمة إلى الشعر المنثور الذي يطلقون عليه".

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية