العدد 5394
السبت 22 يوليو 2023
banner
حفل زفاف منى عبدالناصر
السبت 22 يوليو 2023

ثمة مقولة مأثورة منسوبة للإمام علي وردت في الأثر بصيغ قليلة الاختلاف لكن جوهرها واحد: "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، والمقصود بالأخلاق هنا أسلوب ونمط تفكيرهم في الحياة والثقافة المسلكية، لا بمعنى تطبعهم بخُلق غير مستقيم، وعلى الرغم من مرور قرون طويلة على ذيوع هذه المقولة، إلا أنها مازالت تصح في عصرنا، لا بل ستصح إلى أجل طويل غير معلوم، إذ لا يوجد في واقع الحال والد أو والدة لا يرغبان في أن يكون أبناؤهما يتبعون نهج كليهما أو أي منهما في التفكير في الحياة، إن بدرجة أو بأخرى، لكن تباين الثقافات بين الأجيال، سواء في نطاق الأسرة الواحد أو في نطاق الحياة الاجتماعية أضحى حقيقة مُسلّما بها في شتى المجتمعات وعلى تعاقب العصور، ما يحتم على الأبوين تفهمها.
هذه المقدمة أردناها كمدخل لنتناول باختصار نمط العلاقة التي كانت تسود بين الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وأبنائه داخل البيت، حيث كان يحرص بشدة على إبعادهم عن شؤون الحكم وعالم السياسة، فلم يظهروا في المناسبات العامة إلا نادراً، وقد رُزق عبدالناصر وزوجته تحية كاظم بثلاثة أبناء وابنتين: خالد وعبدالحميد وعبدالحكيم وهدى ومنى، ومع ذلك فقد تباينوا في درجة اهتمامهم بالسياسة، وكان أقربهم إليها خالد الذي اختار الهندسة، لكنه تورط بعد وفاة أبيه في الانتماء إلى منظمة "ثورة مصر" في عهد الرئيس حسني مبارك، وكانت تستهدف أهدافاً إسرائيلية داخل مصر، وتم غض النظر عن هروبه إلى يوغسلافيا، بمعرفة الرئيس مبارك، درءاً لما قد تسببه محاكمته في بلاده من إحراج. ومع أن جميعهم كانوا يكنون الود والاحترام لأبيهم، ويدافعون عن سيرته السياسية، إلا أنهم اختاروا العمل في عالم "البزنس" والمال، باستثناء هدى التي كرست حياتها لجمع ونشر كل ما يمكنها من أرشيف أبيها الفكري والسياسي، أما منى فكانت أبعدهم عن السياسة، إذ اتسمت تطلعاتها في الحياة بأن تعيش مع زوجها المغدور أشرف مروان نمطاً أقرب - إذا صح القول - إلى النمط "البرجوازي"، على عكس نهج الوالد الذي تبنى نمطاً من الاشتراكية التوافقية القريبة من الماركسية.
ولعل ما جاء في حديثها مع الإعلامي الشهير عمرو الليثي الذي تحدثت فيه بشكل صريح وبعفوية على سجيتها، ما يؤكد النمط الذي اختارت أن تعيشه، وتحدثت عن علاقتها مع أشرف مروان قبل زواجهما، وما جرى لترتيبات حفل زواجهما، وموقف الوالدين منه. تذكر السيدة منى أنها تعرفت عليه أثناء دراستهما الجامعية، واُعجبت به جداً، وجرت لقاءاتهما على بلاج ميامي في الإسكندرية بمعرفة أقارب لهما، لكن العلاقة قبل الزواج، بعد معرفة عبدالناصر بها، كانت مشروطة بأن تكون في الأماكن العامة، وألا تكون على انفراد حتى تخرجها، ومن ثم تقدمه بطلب الزواج منها. وكانت منى تبدي استياءها من الحراسة الأمنية التي كان يفرضها الوالد على أبنائه بعد محاولة الإخوان المسلمين اغتياله في ميدان المنشية البكري بالإسكندرية 1954، أثناء إلقائه إحدى خطبه السياسية، والتي ظل متأثرا بها تأثراً شديداً طوال حياته في أعقاب حدوثها، ولعل من تابع تسجيل الخطاب سمع صوته المذعور المتهدج إثر مباغتته بطلقات الرصاص طالباً من الجماهير الهدوء والبقاء في مكانهم، لكنه على ما يبدو لم يستكمل الخطاب. 
وكانت منى أثناء سياقتها سيارتها تراوغ سيارة الحراسة الأمنية المكونة من أربعة أفراد، لتتدبر لقاءاتها مع مروان، وبعد أن خشي الحراس من هذه العلاقة دون علم الرئيس اضطروا لإبلاغه، فأنذرها بحزم بعدم التهرب من الحراسة لخطورة ذلك على حياتها، وأخيراً صارحت أباها بعلاقتهما، ولم يمانع شريطة أن تكون في العلن كما نوهنا سلفاً. 
ومع أنها تصف والدها بأنه "صعيدي" ولم يتخلص من رواسب الثقافة المحافظة الصعيدية، إلا أن ما حدث في ليلة حفل زفافها بدا مناقضاً لما قالته، إذا وصفت الحفل بأنه كان كبيراً جداً، وكان مهرها ألف جنيه، ووصفته بأنه غال جداً بمقاييس ذلك الزمان (1965) حيث كانت مصر حينئذ تعيش في ذروة تطبيق التأميمات الاشتراكية التي كان يقوم بها عبدالناصر بحق كبار الملاك الرأسماليين والإقطاعيين، وكان مروان ينتمي إلى عائلة أممت أملاكها. وأرادت منى من أبيها أن يتدبر وظيفة لزوجها مروان، لكنه رفض لما وجده في هذا الطلب من استغلال لشخصيته كرئيس جمهورية، لكنه عندما علم بلجوئها إلى صديقه المشير عبدالحكيم عامر (بطل هزيمة يونيو 1967) لتطلب منه توظيفه، والذي عينه بدوره في الجيش، برتبة ملازم أول، لم يمانع والدها! وحرصت منى أن يكون حفل زفافها مميزاً بكل المقاييس عن حفلات شقيقتها هدى وأشقائها، فإذا كان الوالد قد حرص على دعوة أعضاء مجلس قيادة الثورة وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة، فإنها لم تكتف بدعوة صديقاتها وزملائها بالجامعة، بل طلبت من أبيها دعوة الراقصتين الشهيرتين سهير زكي ونجوى فؤاد للمشاركة في إحياء الحفل، كما تم التوافق أيضاً على دعود السيدة اُم كلثوم وعبدالحليم حافظ لتأدية فقرات غنائية في الحفل الأسطوري الكبير. أما الوالدة السيدة تحية كاظم التي عُرفت برزانتها وتواضعها طوال حياتها الزوجية، فلم تطلب سوى طلب متواضع، ألا وهو دعوة فرقة "ثلاثي أضواء المسرح" الاستعراضية الفكاهية التي اُشتهرت في الستينيات، وكانت مكونة من الممثلين الضيف أحمد وسمير غانم وجورج سيدهم، بأن يؤدوا فقرة من المسرحية التي غنوا فيها "دكتور الحقني المغص جوه في بطني"، على حد تعبير ابنتها منى نفسها. وأخيراً فقد تمكن المحاور الليثي من استدراجها للحديث عن واقعة مقتل زوجها مروان في 2007، وهي عملية مازال يكتنفها الغموض، فيما إذا سقط من بلكونة شقته في لندن منتحراً، أم جرى اغتياله بتلك الطريقة، وقد أكدت من جانبها أن الواقعة كانت اغتيالاً. الجدير بالذكر أن مروان عُرف بأنه كان عميلاً مزدوجاً يعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية والمصرية على السواء، كما كان واحداً من كبار تجار الأسلحة، ورجحت تحليلات المراقبين أن واحدا من هذه الأطراف على الأقل كان متورطاً في عملية مقتله. 

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .