العدد 5391
الأربعاء 19 يوليو 2023
banner
طه حسين وثورة يوليو
الأربعاء 19 يوليو 2023


بالتزامن مع الاحتفالات المصرية والعربية بمئوية ميلاد طه حسين في خريف 1989، صدر العدد الأول من مجلة ثقافية اسمها "قضايا وشهادات"، لكنها لم تستمر سوى فترة قصيرة، كما لم يكن لها رئيس تحرير محدد، بل هيئة تحرير مكونة من 4 من كبار المثقفين والأدباء العرب، وهم فيصل دراج والراحلون الثلاثة عبد الرحمن منيف، وسعد الله ونوس، وجابر عصفور. وكانت تصدر في حدود 500 صفحة أو أقل بقليل. وما يعنينا هنا تحديدًا أنها خصصت العددين الأول والثاني عن طه حسين، ونوّه الكاتب المسرحي ونوس في افتتاحية دراسية للعدد الأول، بأن هذا العدد صدر بمحض الصدفة متزامنًا مع مئوية عميد الأدب العربي. لكن يظل مغزى تخصيص أول عددين من هذه المجلة العربية الرائدة فيما ينطوي عليه - في تقديرنا - بما كان يتمتع به عميد الأدب العربي من مكانة شامخة في وجدان وعقول المثقفين والمفكرين العرب كافة، حتى بعد مرور ربع قرن على رحيله وقت مئوية الاحتفال، وما زال هو كذلك إلى يومنا هذا، بعد مرور نصف قرن على وفاته، حيث يرجع هؤلاء المفكرون والمثقفون إلى إرثه الأدبي والفكري العظيم، ويحتجون به سواء في النقد الأدبي، أو في أي معركة من معاركهم اليومية الفكرية في مجابهة أخطر موجة ظلامية يمر بها العرب في تاريخهم الحديث والتي يمثلها خطاب حركات وأحزاب الإسلام السياسي المتشددة. 
ويؤكد ونوس في تلك الدراسة العلمية الموضوعية أن ثمة تنافر مكتوم متبادل ظل يطبع العلاقة بين حسين وثورة يوليو، وذلك جراء صدمته من حل الأحزاب، وتغييب الحريات العامة، إذ وجد في مثل هذه الإجراءات ما يتناقض مع الآراء والقيم الليبرالية التي كان يؤمن بها، والتي كان يجرؤ على الدفاع عنها في سياق النقدين الأدبي والسياسي، وفق مساحة حرية التعبير المتاحة خلال النظام الملكي على ضيقها، أو تذبذبها بين الاتساع النسبي والضيق. لكنه وجد هذه المساحة باتت تضيق جدًا عن تحمل أي نقد أو رأي مخالف لسياسات قيادة الثورة، وسرعان ما وجد نفسه أيضًا قد هُمّش، واستعيض عن هذه الجفوة المكتومة المتبادلة ب " ستار من المجاملات المتبادلة" على حد تعبير ونوس. ومع أن عددًا من الكتّاب قد التبس عليه الأمر، وتخيل تلك المجاملات، فضلا عما أعرب عنه العميد في بدايات الثورة من ترحيب وتفاؤل بها، دليلًا على وجود علاقات ودية طبيعية بين الطرفين، إلا أن ذلك لم يكن صحيحًا إطلاقا. 
والحق فقد كان طه حسين متفائلًا بالثورة في سنواتها الأولى القصيرة، كما عبّر عن ذلك في بعض كتاباته التي نشرها، ومن هذه الكتابات ما جاء تحت عنوان "أدب الثورة وثورة الأدب" من كتابه "خصام ونقد"، حيث جاء ذلك التفاؤل في سياق رده على الذين أتهموا الأدب المصري بأنه أخفق في التعبير عن الثورة، وأن هذا الأدب بعيد عن حياة المصريين ومشاعرهم، فشرح شرحًا مُسهبًا بأن "أدب الثورة" لا ينطلق غداة وقوعها فورًا، بل بحاجة إلى فترة زمنية قد تستغرق سنوات لتختمر وتتفاعل مشاعر الأديب معها، وعندها يستطيع يعبّر عن أحاسيسه الوجدانية بصدق لا بتكلف. ولعل هذا القانون ينطبق على كل الثورات العالمية لا الثورة المصرية وحدها. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن هذا القانون يُذكّرنا بتجاهل قادة ثورة أكتوبر البلشفية 1917 له، وذلك حينما رغبوا في "أدب ثوري" معبرًا عن "ثورتهم" فور وقوعها، حتى أنهم حولوا هذه الرغبة إلى أوامر مشددة مُلزمة لكل أدباء روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، لا بل سمحوا لأنفسهم كسياسيين- من غير اختصاصهم بالأدب- بالتدخل في النصوص الأدبية وإصدار الأحكام الاعتباطية المزاجية عليها وعلى أصحابها، وإن كانت هذه مسألة أخرى تبعدنا عن صلب موضوعنا، وليس هنا موضع مناقشتها تفصيلًا. على أن طه حسين قد أكد أيضًا بأن الأدب هو الذي يُمهّد للثورة حاضًا عليها، مُضيفًا في هذا الصدد "ولست أعرف ثورة سياسية… إلا وقد سبقتها ثورة أدبية عقلية كانت هي التي أغرت الناس بها ودفعتهم إليها وأخرجتهم من أطوارهم، فلم يستطيعوا صبرًا على ما يكرهون ولا إبطاء عما يريدون". وقد جاء تعبيره عن هذا التفاؤل حينما أغبط شباب الثورة الواعد - ويقصد بهم من وُلدوا وتربوا في ظلها - بأنهم لن تواجههم التعقيدات التي واجهها جيله وأترابه من الأدباء، إن في الكتابة في التعبير عما يشاؤون بحرية، أو في رغد الحياة المنشود تحقيقه في ظل الثورة. إذ كان جيله - حسب تعبيره - يضطر قبل الثورة إلى "مداورة السلطان والاحتياط من شره والاستخفاء بكثير من آرائنا، نكتمها أحيانًا في نفوسنا فنشقى بكتمانها، ونعرب عنها أحيانًا في كثير من الألغاز واصطناع المجاز والافتتان في التنكر والتستر والاستخفاء". وهذا ما لا يحتاجه جيل الثورة، كما يذهب إلى ذلك العميد. كما يغبط جيل الثورة الناشئ لأنه سيمتع بمردود النظام الاقتصادي الجديد العادل الذي ستشيده الثورة مقارنة بالنظام الاقتصادي السابق الذي قسّم الشعب". إلى الأغنياء المترفين… والفقراء المعدمين الذين يشقون بغير حساب لأنهم لا يجدون ما يقيم الأود أو يرضى حاجة الإنسان الذي يستطيع أن يكون إنسانًا". (نقد وخصام، ص 149 - 164).
والواضح أن تفاؤل طه حسين سرعان ما أنقلب إلى إحباط وخيبة أمل شديدة، إذ سرعان ما صُدم بالإجراءات الاستثنائية المؤقتة التي لجأت إليها الثورة في مواجهة أعدائها، والتي تم تثبيتها وتحولت إلى دائمة، فما كان منه إلا أن لاذ بالصمت، ولعله قدّر خطورة المجاهرة بمعارضة تلك الإجراءات الاستثنائية التي طالت ولما تُرفع، ومن ثم وجد انسداد منابر التعبير أمامه، بعكس ما كان يجده متنفسًا له إبان النظام الملكي، وخصوصًا أن طه حسين قد تخصص في المقام الأول في النثر والنقد اللذان أستطاع أن ينفذ في نصوص كل منهما للتعبير عن آرائه ومواقفه، ولم يتخصص في أي جنس من أجناس الأدب، إلا بشكل محدود. ولعلنا نجد في موقف طه حسين من الثورة تشابهًا إلى حد كبير مع موقف الروائي نجيب محفوظ، فهو الآخر صُدم بتلك الإجراءات الاستثنائية والتزم الصمت معظم سنوات الخمسينات، حيث توقف إنتاجه الروائي خلالها، ولم يستأنفه إلا أواخرها بروايته المثيرة للجدل" أولاد حارتنا"، لكن إذ تمكن عميد الرواية العربية محفوظ من كشف سلبيات سلطة الثورة وتغييبها الديمقراطية من خلال ما يبثه بين ثنايا نصوص رواياته بأسلوبه الأدبي البارع في المراوغة، للانتقاد السياسي غير المباشر على ألسنة شخوص الرواية، فلعل هذه المزية هي ما افتقد إليها عميد الأدب العربي طه حسين بعد الثورة حتى مماته. وزاد من مصاعب استئناف نشاطه النقدي والتعبير عن آرائه أنه في السنوات العشر الأخيرة قد قضى كلها أو معظمها في معاناته الأليمة المريرة  من المرض الذي ألم به إثر تداعيات عملية طبية أُجريت له في العمود الفقري.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .