العدد 5384
الأربعاء 12 يوليو 2023
banner
طه حسين والإصلاح اللغوي
الأربعاء 12 يوليو 2023

إذا كان طه حسين قد علل استخدام الأدباء والكتّاب اللهجة العامية في كتاباتهم إلى غياب حسن تعليم الفصحى في مدارسهم وجامعاتهم، كما صرّح في أحد أحاديثه التلفزيونية، فهذا لا يعني أنه لم يتناول أهمية الإصلاح اللغوي والنحوي في مؤلفاته البتة، ومنها على سبيل المثال كتاب "نقد وخصام"، حيث ذكر فيه أن المحاولات الإصلاحية في علم النحو التي جرت منذ أوائل القرن العشرين انتهت  إلى لاشيء، ومثلها الكتابة العربية.(الطبعة الثامنة الصادرة عن دار الملايين البيروتية 1989،ص190-194). 
وعلى عكس ما يظن كثرة من المثقفين بأن الفصحى كانت تجري على ألسنة العرب القدماء بسليقتهم كافة، وهذا ما نلحظه في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التي تتناول الأحداث التاريخية الإسلامية القديمة، فإن اللهجات في تلك الأزمنة موجودة وتختص بها كل قبيلة على حدة، أما اللهجة المشتركة المصطفاة التي اُصطلح على تسميتها" الفصحى" لأسباب ليس هنا موضع عرضها،فكانت امتيازا  تستأثر بها "قلة قليلة من الناس" على حد تعبير العميد.والمشكلة إننا ما برحنا نكتب كما كنا نكتب منذ أكثر من ألف سنة، في حين نحن نُعلّم  "صبيتنا وشبابنا اُصول اللغة العربية وخصائصها كما كانت تُعلم منذ اثني عشر عاماً في البصرة والكوفة وبغداد"رغم تغير الحياة وتغير العقول.وأسمى العميد تلك القلة القليلة "الأرستقراطية" المُغرمة بالصعوبة والعسر والضيق، وإقامة الحواجز والمصاعب، بغية احتكار العلم والمعرفة وتميزها عن عامة الناس، فليس من مصلحتها تيسير اللغة كي لا يضاهيها فيها عامة الناس، أما وقد أصبح التعليم مشاعاً في عصرنا، فقد أضحت حسب تعبير العميد " ارستقراطية ديموقراطية" تستتبع السهولة واليسر وتذليل العقاب. 
ويؤكد طه حسين إن إصلاح الكتابة والنحو كفيلان بإراحة الأدباء الشباب الذين تعلموا العربية بأساليب مُنفِرة لا تلائم أمزجتهم وعقولهم، مما جعل إنتاجاتهم الأدبية تجمع بين الجمال والقبح في آن واحد، أو الهروب إلى استخدام العامية. ومع أن العميد كتب هذا الكلام منذ نحو ثلاثة أرباع القرن، فإن هذه المشكلة ما برحت قائمة! وهنا لنتساءل: أليس تيسير اللغة الذي شدد على أهميته العميد يتيح فضاءً أرحب لحرية  الأديب في الإبداع؟ ناهيك عن زيادة أعداد المبدعين، بل وزيادة فرص وصولهم إلى العالمية، حيث أن ذلك يستتبع بطبيعة الحال-في رأينا- سهولة الترجمة الإبداعية، على النقيض من الترجمة إلى اللغات الأجنبية العالمية من نصوص عربية التي قد تجد فيها-بقدر أو آخر- مؤثرات من أساليب قديمة موروثة، مهما اُدخل على العربية من تيسير وإصلاح. 
والحال أن طه حسين، إنما ظل مدافعاً عن الفصحى بتيسيرها توطئة لإحداث إصلاح جوهري فيها، وهذا ما يأباه المحافظون رافضين سنن التطور الذي شهدته لغتنا نفسها قديماً " فلغة القرن الأول للهجرة لم تكن مطابقة كل المطابقة للغة الجاهليين، ولغة ابي نواس وأصحابه لم تكن مطابقة كل المطابقة للغة الفرزدق وجرير،ولغة المتنبي ومعاصريه لم تكن هي لغة ولداته وأترابه" ويضيف بأن اللغة التي يتحدث بها كتّاب اليوم ليست اللغة التي تحدث بها كتّاب القرن الثالث إلى قرائهم(ص188). ورغم أن طه حسين حاز على لقب "عميد اللغة العربية" بلا منازع، وعشق لغته العربية أيما عشق، وطالب بالتمسك بالفصحى، إلا أنه أبدى سخطه لوقوف المحافظين حجر عثرة في طريق إصلاح الكتابة والنحو من خلال إضفاءهم القداسة الدينية على اللغة العربية: " وكنت أقول أن اللغة العربية فصيحة ما في ذلك شك، ولكن في الأرض لغات أخرى  ليست أقل منها فصاحة وامتيازاً" ص 182، هو الذي يلم أو يتقن بعدد من اللغات القديمة والحديثة، وعلى رأسها الفرنسية، ولا شك بأنه كان يتمتع بذائقة لغوية تجعله جديراً في المقارنة بين آداب تلك اللغات وآداب لغتنا العربية. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية