العدد 5380
السبت 08 يوليو 2023
banner
فرنسا المريضة... وإعصار الضواحي
السبت 08 يوليو 2023

فاجأ إعصار ضواحي باريس الاحتجاجي الأخير الدولة والمجتمع، إثر مقتل الفتى نائل في نقطة تحقيق مرورية، ولم تكن المفاجأة في توقيت الإعصار فحسب، وقد عرفت فرنسا عشرات الحوادث المشابهة التي راح ضحيتها أبناء من الضواحي على خلفية مخالفات مرورية، بل وفي عنف الهيجان الكاسر الذي عبّر عنه الإعصار السياسي الذي لم يترك شيئاً يصادفه وتطاله الأيدي في الشوارع التي سلكها لم يدمره، أو لم يعرضه للسطو، إذا ما كان من البنوك والمحلات التجارية وسواها، كما لم يكن متوقعاً أن يكون حجمه بهذا الاتساع ليشمل المدن الكبرى، ولا أن يصمد طوال أسبوع، رغم ضراوة القمع الوحشي الذي تلقاه المحتجون على أيدي الشرطة.
والحق ما كان ينبغي أن يفاجئ مثل هذا الإعصار الرئيس ماكرون وحكومته، ولا القوى والنخب السياسية، فكل الأوضاع المأساوية التي يحياها سكان ضواحي باريس وغيرها من المدن، والتي كانت بمثابة قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في أي وقت، كسائر سلسلة القنابل الموقوتة التي تفجرت تباعاً بشكل متقطع منذ 2005 وصولاً للإعصار الأخير الذي يُعد الأعنف والأشد تاريخياً، وحدهم المتغابون أو المتعامون عن تلك الأوضاع المزمنة هم الذين فقط تفاجأوا، ولا يخلو الإعصار الكاسح من دلالة أنه جاء متزامنا مع الذكرى الخامسة والخمسين للانتفاضة الطلابية الشهيرة 1968، والتي أسقطت تبعاتها السياسية الرئيس شارل ديجول، مع أنه كان واحداً من أقوى رؤساء فرنسا وأكثرهم شعبية، حينذاك نعت ديجول المتظاهرين، بأنهم "يسار متطرف" أو "مسخرة"، طبقاً لما ذكرته فلورنس جوتييه إحدى القياديات في الانتفاضة الطلابية، والتي أضحت لاحقاً أستاذة زائرة في جامعة باريس السابعة.. وهذا أقصى ما تفوه به أعلى مسؤول في الدولة بشكل "أبوي" على حد تعبير جوتييه الساخر، والتي تذكر أنهم في صولاتهم اكتشفوا المدينة الضخمة المجهولة المهمشة الفقيرة (داخل باريس الكبرى) وسكانها من المهاجرين والنساء و"أشباه البروليتاريا" حسب وصفها.

أما أوصاف الرئيس ماكرون ومسؤولين كبارا في الدولة وأعضاء في البرلمان وأحزاب اليمين المتطرف، بحق فتيان الضواحي، فهي تنضح بأحط وأقذر النعوت العنصرية بلا خجل ولا مواربة! وهذا ما يصب الزيت على النار، انتظاراً لانفجار جديد أكثر خطورةً.

ولعل الرئيس شيراك كان الأكثر واقعية في تعليقه على أزمة الضواحي المستديمة بين نظرائه الرؤساء المتعاقبين منذ 1968: "المهاجرون لم يأتوا بمفردهم، إنما تم جلبهم بالشاحنات والقوارب؛ لأن فرنسا بحاجة للعمالة في المناجم وصناعة السيارات، وجميع الصناعات الملوثة التي يرفضها الفرنسيون"، وصحيح صُرفت بضعة مليارات من اليوروهات على الضواحي لتحقيق بعض الإصلاحات الشكلية، لكنها لم تغط إلا أقل من أدنى الاحتياجات المعيشية والعمرانية لسكانها المُقدّر بـ 20 مليون نسمة، عدا ذلك فإنها كانت إصلاحات لم تعالج جذور الأزمة العميقة التي يتجدد انفجارها بين حين وآخر.

الأخطر من هذا وذاك أن أسلوب تعامل حكومة ماكرون مع الانفجار الأخير جاء ليصب الزيت على النار ودخان الحرائق لم ينقشع بعد، دون توخي ولو تهدئة مؤقتة، بل تمهيد التربة لانفجار جديد أكثر خطورة سيكون بمثابة بركان مزلزل. ولنتأمل في ردود فعل وتصريحات اليمين المتطرف التصعيدية التي اتخذت منها الحكومة ليس موقف المتفرج فقط، بل المبارك والمشارك!

فقد وصفت سكان الضواحي واحدة من أكبر نقابات الشرطة Alliance de pooice francaise المتعاطفة مع قوى اليمين الفرنسي المتطرف بزعامة مارين لوبان، سكان الضواحي بـ "الفيالق المتوحشة"، ما يُذكّر بما وصفه إيّاهم الرئيس السابق ساركوزي بـ "اللصوص". وعلى هذا النحو رفض يرونو لومير، وزير الاقتصاد والمال، دون أن يرف له جفن، تخصيص أية مبالغ طارئة لتمويل برامج اجتماعية وسكنية وثقافية لأكثر الأحياء منكوبية في "عالم الضواحي". أما إريك سيوتي (رئيس حزب الجمهوريين التقليدي) فقد كان أكثر فظاظة، بحيث طالب بفرض غرامات مالية على العائلات التي خرّب ونهب أطفالها وصبيانها الممتلكات العامة والخاصة، وهو التصريح الذي يتناغم مع تصريح ماتيو فاليه المسؤول النقابي في إحدى نقابات الشرطة الذي أضاف إليه وجوب تشغيلهم في أعمال بالسخرة إذا ما عجزوا عن دفع الغرامات المطلوبة!

وأخيراً بادر اليميني المتطرف جان مسيحة، ذو الأصل العربي، بإنشاء صندوق تبرعات للشرطي المتهم بقتل نائل، وهو لا يزال قيد التحقيق، وتم جمع أكثر من مليون يورو، وجاءت هذه المبادرة رداً على صندوق التبرعات لعائلة نائل الذي لم يجمع سوى أقل من نصف هذا المبلغ.

في مقاله الأخير وصف غسان شربل، رئيس تحرير "الشرق الأوسط" السعودية، الفرنسيين بأنهم أقل لمعاناً من فرنسا، وأجاد الوصف أيضاً حينما وصف الأخيرة بـ "المريضة" التي ترفض رؤية ما طرأ على فرنسا والضواحي من متغيرات ديموغرافية هائلة، وترفض إصلاح الشرطة والتعليم.

والحال أن مرض فرنسا تحديداً هو العنصرية المستوطنة في نفوس قطاعات واسعة من الفرنسيين، خصوصاً مع صعود اليمين المتطرف وذوي النزعات الشعبوية، والمعبر عنها في كراهية الآخر الشريك المفترض في المواطنة. وقديماً نُسب للإمام علي قوله: "احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع"، وما حدث خلال الأسبوع الماضي في فرنسا من أعمال عنف وتخريب قام بها أطفال وفتيان ومراهقو الضواحي من جهة، وردود فعل الدولة وقوى اليمين المتطرف التصعيدية من جهة أخرى هي بالضبط ما يعبّر عن صولة الجائع وصولة الشبعان في آن واحد.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .