العدد 5377
الأربعاء 05 يوليو 2023
banner
العميد بين العامية والفصحى
الأربعاء 05 يوليو 2023


لا أعتقد ثمة مثقفاً عربياً استمع  إلى حديث من أحاديث  طه حسين الإعلامية لم يشعر بعذوبة اللغة العربية، وهي تجري على لسانه جريان الماء الزلال من أعلى شلال ماءٍ دون زلل أو لحن أو تأتأة أو تمهل للتفكير،  وكأن كلماته التي ينطقها يقرأها من كتاب منظوم،وبأسلوبه المميز القرين به، حتى أنك لوقرأت نصاً من نصوص العميد دون وجود اسمه، أو وجدت ثمة من انتحله لعرفت على الفور
كاتبه الحقيقي إذا ما كنت من قرّائه. ولعل هذه الخاصية التي جُبل عليها قد اكتسبها  من دراسته الأزهرية، ومن كثرة استماعه للكتب التي تُلقى عليه أثناء تثقيفه الذاتي، ناهيك عن موهبته التي حباها الله بها؛ لذا لا غرو والحال كذلك أن يكون العميد من  المتشددين المنادين بالكتابة بالفصحى في كتابات كل المثقفين العرب مستهجنا استخدام بعضهم العامية في كتاباتهم. وظل إلى أواخر حياته متمسكاً بهذا الموقف، حيثما سُئل  عن رأيه في هذه المسألة.  على أن العميد لم يستبعد جواز استخدام العامية بشكل محدود لتوضيح الفكرة، وهذا ما أكده في أحد الحوارات التلفزيونية التي اُجريت معه رداً على سؤال للروائي يوسف السباعي عما إذا يجوز للروائي الأديب استخدام العامية،وطمأنه العميد بأنه يمزج بين اللغتين والعامية، مضيفاً: " إني أكره أن يُكتب كتاباً كاملاً باللهجة العامية، وتُنبذ الفصحى نبذاً كاملاً". ووصف في حوار آخر أن استخدام العامية في الكتابة هو بمثابة انحطاط في الأدب . 
أكثر من ذلك فقد بدا طه حسين في أواخر حياته ، وكأنه يستشرف حال ومستقبل الفصحى ، سواء خلال الثلاثة عقود المتبقية من القرن أو خلال قرننا الحالي، على نحو ما شهدناه ونشهده من تدهور مريع مطرد للفصحى لا سابق له تاريخياً،علاوةً على الكثرة الهائلة في الأخطاء اللغوية إن اُستخدمت، وبتنا نرى محللين سياسيين في برامجهم اليوتيوبية يتحدثون ويكتبون بالعامية، ويؤلفون الكتب بها، لا بل ثمة من يكتبها في الويكيبيديا لتعريف الشخصيات !
ويرى طه حسين بأنه إذا ما كتب كل مثقف بلهجة بلاده فكيف تُفهم عند بقية الشعوب العربية. وعلى صلة بالموضوع وفي حديث إعلامي آخر،  يروي طه حُسين طُرفة حدثت له أثناء زيارته للمغرب ، فقد سمع كلمة" دياله" والتي تعادل بالمصرية" بتاعه" أو تبعه، ولم يفهمها، إلا بعد أن استفسر  عنها من الملحق الثقافي في سفارة بلاده، حتى تشنفت اذنيه بها مستلطفاً إياها، وظل طوال زياراته لهذا البلد يرددها مع مستضيفيه المغاربة، ولم ينس أن يرددها لمودعيه المغاربة في سفينة العودة لبلاده تعبيراً عن امتنانه لهم.
ومع أن العميد يرجع أسباب إقبال الأدباء والكتّاب الشباب على العامية إلى غياب حسن تعليم العربية في المدارس والجامعات، إلا أن هذا السبب في اعتقادنا ليس رئيسياً، بل هو أقرب إلى النتيجة من السبب،  والسبب  الجوهري في تقديرنا إنما يعود لصعوبة وجفاف قواعد ونحو لغتنا العربية، وهذه معضلة تاريخية حضارية ستظل عالقة بلا حل لفترة مرشحة للإطالة إلى أجل غير معلوم؛ وذلك في ظل عدم إصلاح قواعد ونحو اللغة، وعزوف إكليروس مجامعنا اللغوية المتحكمين في قراراته عن تقبل دعوات ومبادرات إصلاحها. وعلى العكس من ذلك لنتأمل التطور الذي شهدته كل لغات العالم الكبرى، ما أتاح لكل كاتب ومثقف من أبنائها أن يكتب ويتحدث بصحيح لغته بلا حرجٍ ولا وجل. 
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية