العدد 5371
الخميس 29 يونيو 2023
banner
ناظم حكمت وجنون الحُب
الخميس 29 يونيو 2023

لا تملك وأنت تتابع قراءة كتاب " الحديث الأخير مع ناظم" لفيرا تولياكوفا الزوجة الأخيرة الروسية الشابة لشاعر تركيا الكبير ناظم حكمت والذي كتبته على سجيتها الفطرية المفرطة، بأكبر قدر من الشفافية دون أية محاذير، سوى التعاطف معها، لما تتسم به من طيبة وسجايا إنسانية كبيرة، فلا يخالجك أي شك في صدق ما سردته من وقائع وانطباعات، سواء تجاه نفسها، أو أزاء زوجها ناظم، أم نحو النظام السوفييتي.اللهم إلا أدنى القليل.والقصة التي نحن بصددها شديدة الغرابة، لا بل هي أغرب من قصص الخيال، إذ اشتعلت شرارة الحُب العاصف في قلب حكمت نحو فيرا منذ لقائهما الأول في شقته عندما زارته بمعية زميلتها في العمل فالنتينا برومبيرغ بغرض مساعدتهما في إخراج فيلم لأطفال ألبانيا؛ بافتراض إدارة الأستوديو التي بعثتهما أنه ملم بمجتمع هذا البلد من خلال ما يعرفه من تاريخ تركيا التي احتلته،وزارهما بعدئذ مرات في مقر عملهما بالأستوديو لهذا الغرض، لكن كثرت الزيارات المفتعلة لاحقاً وتعددت مرات ومرات، إذ هام الرجل بها هياماً جنونياً مُذهلاً- بكل معنى الكلمة- حتى صارحها بحُبه المهووس لها، هذا على الرغم من تعدد الحواجز التي تمنع هذا الحُب أو الزواج منها: فهو أولاً يكبرها بثلاثين عاماً، هي في أوائل العشرينيات وهو فوق منتصف الخمسينيات، وهو ثانياً رجل عليل جداً بمرض القلب والشرايين، وعلِم بأنه لن يعيش أكثر من إحدى عشر عاماً، وقد عاش أقل من ذلك بسنوات، ومنذ بدء العلاقة صارحها بكل هذه الاُمور. وثالثة الأثافي هي متزوجة من شاب كان زميلا لها في دراستها السينمائية ويكبرها بعام واحد، وأنجبا طفلة، ويعيشان في كنف حياة زوجية مستقرة وسعيدة. والأكثر من هذا وذاك لطالما عرّضها أثناء علاقته العاطفية والزواجية معها لمواقف محرجة لا عد لها، سواء في مقر العمل أم في أماكن عامة متعددة، وكان يكفي واحداً منها لترفض أية فتاة غيرها رفضاً قاطعاً الزواج من شاب عادي، فما بالك برجل مثله بتلك الحواجز الثلاثة المستحيلة، وهو أيضاً ذو تجارب زواجية فاشلة مع أربع نساء، ناهيك عن مغامراته النسائية الأخرى، وكل هذه الأمور علِمت بها منه.
وفي اللقاء الأول وعند خروجهما من شقته وصفها مخاطباً بالتركية صديقه ومترجمه الأذربيجاني أكبر باييف، بأن صدرها مسطّح، وشعرها مُجعّد كالخروف،وفهمت ما قاله لأنها ملمة قليلاً باللغة التترية( من فروع اللغة التركية) من خلال إقامتها في تتارستان لبضع سنوات،حين هجّر ستالين عائلتها إليها بينما كانت طفلة، فاحمّر  وجهها بشدة، وأدرك ذلك واعترفت له بما فهمت. أما في الأماكن العامة فقد عرّضها لمواقف شديدة الإحراج لها تبدىٰ من  خلالها أشبه بالممثل المحترف على خشبة المسرح لا على مسرح أرض الواقع، نذكر منها: ضبطها وهي تتأمل نفسها أمام مرآة منزله الريفي في "بيريديلكنو"  أثناء زيارة له لمنزله الريفي مع بعض زملائها، ولم تعجبه لأمر ما، فشد شعرها بقوة ما أوجع مؤخرة رأسها. وهذا ما فعله بطريقة أخرى صديقه بابلونيرودا بحقها أثناء زيارتهما له في غرفته بفندق ناسيونال حيث لم تعجبه المشابك المثبتة في شعرها فشده بقوة ورمى المشابك على الأرض وهي تصرخ من شدةالألم، فيما حكمت يضحك! و في رحلة هروبهما من موسكو بالقطار لقضاء شهر العسل في مدينة نائية، وقف في ممر العربات بصرخ بأعلى صوته" زوجتي تريد شاياً، وهو ما فعله في موقف آخر في حافلة حيث صرخ بأعلى صوته موجهاً صرخته للركاب: "… لا يمكنكم  أن تتخيلوا كم أحب هذه الفتاة". وعند حضورهما إحدى المسرحيات، وفيما هي تتابع العرض، صد عن مشاهدة المسرحية وأستدار نحوها وأخذ يطيل النظر إليها، ثم طلب منها أن ينصرفا إلى الخارج. وذات يوم عندما استبطأ عودتها من العمل جن جنونه ووصفها عند واحدة من جيرانهم وهو في قمة غضبه ب" العاهرة"، لكنها عرفت لاحقاً- لضعفه في اللغة الروسية- كان يقصد ب " المتسكعة". 
لكن رغم كل تلك الحواجز والمواقف قاتل بضراوة منقطعة النظير ومارس أشكالاً متعددة من الضغوط الهائلة الشديدة عليها للظفر بها،وكان أشدها عند ما هددها مرات عديدة بأنها ستتسبب في موته إن لم توافق عليه، فاستسلمت في النهاية وألقت بكل أسلحتها لصرفه عن الزواج منها، بما في ذلك إرغامها على الطلاق من زوجها، لكنها في النهاية وجدت نفسها تبادله الحُب الضائع القصير الذي لم يدم لموته سوى سبع سنوات! وعلى الرغم من كل تلك المواقف الصعبة والآلام التي تحملتها معه بصمود تُحسد عليه، لم تغفل خصاله الإنسانية التي اُعجبت بها أيما إعجاب، ومنها مواقفه الجريئة ضد استبداد السلطة السياسية التي استضافته، سواءً بحق مواطنينها العاديين أم بحق الأدباء والفنانين المضطهدين ،و هو الشاعر والأديب الكبيرالذي يعرف أحق المعرفة مستوى نتاجاتهم الإبداعية بمنظور سعة أفقه الأدبي النقدي، لا بالمنظور السياسي الضيق لقيادة الحزب في تقييم إبداعاتهم! 
ولكم يتوق المرء لمشاهدة  هذه القصة في فيلم روسي مترجم، سيما أن السيناريو جاهز تقريبا، ويحوي على كل بهارات ومقومات الإثارة لجعله فيلماً جماهيرياً ناجحاً بامتياز. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية