في مثل هذا الشهر من عام 1982،وتحديداً في السادس من يونيو/ حزيران المتزامن مع ذكرى هزيمة 1967 استيقظت بيروت على نبأ انتحار الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي بطلقة من بندقية صيد، وذلك عشية وصول الاجتياح الاسرائيلي إلى مشارف العاصمة، حيث لم يقو قلبه المثقل أصلاً بالاحباطات الشخصية العاطفية والعامة رؤية ذلك المشهد المجلل بالعار الدامي للكرامة الوطنية اللبنانية والعربية. وفي عام 2007 صدر عن دار النهار كتاب للشاعرة اللبنانية جمانة حداد بعنوان مخيف مفزع استفزازي أشبه بالمحرض على الفعل، لكنه بالغ الدلالة عن أنطولوجيا الشعراء المنتحرين: "سيجيء الموت وستكون له عيناك"، وهذا العنوان استقته المؤلفة من مقطع لقصيدة بهذا العنوان للشاعر الإيطالي المنتحر والمناضل ضد الفاشية تشيزاري بافيزي، وقد أهدت المؤلفة بدورها كتابها إلى جدتها المنتحرة جميلة، حيث كتبت قصيدة انتحارها في يونيو/ حزيران أيضاً من عام 1976. وفي هذا الكتاب الموسوعة تتناول الشاعرة اللبنانية 150 شاعراً منتحراً في القرن العشرين من بينهم 28 امرأة من 47 بلداً، و من بينهم شعراء عرب وروس. ولعل مما له دلالة لافتة تستحق الدراسة أن تراثنا الأدبي في عصوره الزاهرة لم يكن يعرف ظاهرة الشعراء أو الأدباء المنتحرين، اللهم إلا حالات محدودة، وكذلك الحال فيما يتعلق بالأدباء الروس خلال العصر القيصري، في حين لا يمكن أن يخلو من دلالة أن جُل الأدباء الروس المنتحرين إنما انتحروا خلال العصر السوفييتي والذي شغل الجزء الأعظم من القرن العشرين!
من أبرز هؤلاء الشعراء السوفييت الكبار المنتحرين الشاعر الشاب سيرغي يسينين صديق الشاعر الشاب ماياكوفسكي المعروف بشاعر الثورة والذي أختار الانتحار بعد خمس سنوات من مصير الأول. كذلك الروائي المعروف والروائي ألكسندر فادييف رئيس أتحاد الكتّاب وصاحب رائعة "الحرس الفتي" التي كانت قد صدرت ترجمتها في جزءين "دار التقدم" السوفييتية عام 1981في العصر الذهبي للترجمة من الروسية إلى العربية قبل إنهيار الإتحاد السوفييتي على يد المترجم المصري المعروف سامي عمارة .لكن الكاتب الذي كان يُوصف بعدو المبدعين والمحرض الواشي ضد نصوص زملائه الأدباء من أعضاء الإتحاد لدى السلطات، لم تسلم روايته هو الآخر من غضب ستالين، فبعد أن حوّلها المخرج الكبير سيرغي جيراسيموف إلى فيلم بنفس عنوان الرواية، سخط عليها الدكتاتور ووصفها بأنها أراجيف أساءت لبطولات الشيوعيين في الحرب الوطنية العظمى( الحرب العالمية الثانية)، مع أن أغلب النقاد الروس يعتبرون أن أحداثها وشخوصها مستمدة من الواقع. ومع أن فادييف أضطر صاغراً إلى تعديل وتغيير الكثير من فصول الرواية لعله يرضي بذلك مزاج الدكتاتور، إلا أنه اُصيب بصدمة وخيبة أمل شديدتين بعد وفاة هذا الأخير وتكشّف بعض ما أرتكبه من جرائم في المؤتمر العشرين للحزب ، زاد منه تشفي بعض ضحاياه من زملائه الكتّاب فيه مما دفعه للانتحار في "ببريديلكينو " وهي واحدة من أجمل ضواحي موسكو المخصصة لاستراحات الأدباء، وكانت لشاعر تركيا الشهير ناظم حكمت فيلا فيها خلال منفاه بعد نجاحه في الهروب الأخير إليها من وطنه تركيا، وشهدت هذه الاستراحة التي خصصتها له السلطة السلطة السوفييتية الكثير من مغامراته النسائية قبل أن يتزوج أخيراً في سني حياته الأخيرة من الشابة الروسية فيرا تولياكوفا حكمت التي أحبها حُباً جنونياً عاصفاً وكانت في عمر ابنته، وهي تكشف لنا في مذكرات حياتها الزوجية معه" الحديث الأخير مع حكمت" الكثير ليس من أسرار هذا الشاعر التركي الكبير الزوج الذي عاصر عدداً من مشاهير الأدياء والشعراء الروس المنتحرين فحسب، فضلا عن كونه صديقاً لشعراء عالميين مثل بابلو نيرودا ، بل ونضاله -بطريقته الخاصة- وهو الضيف الأجنبي ضد عسف السلطة المضيفة بحق الكتّاب والأدباء السوفييت.وقد كان شاهداً ومدافعاً عن ابداعاتهم، ساخراً من حظر السلطات للكثير منها . والحال فقد شهد العصر السوفييتي الستاليني أكبر مذابح اُرتكبت بحق نصوص الخلق الإبداعي، بتأثير الوصاية والتدخل الحزبي ما دفع الكثير منهم ممن كانوا مبشرين للثورة للانتحار، ولم يكن بالتالي مصادفة أن يحدث ذلك في العصر السوفييتي تحديداً .