العدد 5352
السبت 10 يونيو 2023
banner
الفرص المضيّعة لتفادي النكسة
السبت 10 يونيو 2023

ثلاث رسائل تضامنية بالغة الأهمية وصلت الرئيس المصري جمال عبدالناصر بعد سويعات قليلة من إلقائه خطاب التنحي مساء التاسع من يونيو 1967، تناشده بالتراجع عن قرار التنحي: الأولى من الرئيس الفرنسي شارل ديجول، والثانية رسالة جماعية بإمضاء القيادة الثلاثية السوفييتية: بريجنيف، الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم، وكوسيجين، رئيس الوزراء، وبودجورني، رئيس مجلس السوفييت الأعلى (قادة الانقلاب على نيكيتا خروتشوف 1964)، والثالثة من يوثانت، الأمين العام للأمم المتحدة الذي ذكّره فيها بالحكمة البوذية: "إن العظمة الحقيقية هي في القدرة على احتمال المكاره"، وهذه الرسائل الثلاث من شخصيات دولية مؤثرة إنما تؤكد أخذهم استقالة عبدالناصر على محمل الجد، والتي حاول أعداؤه من الإخوان المسلمين والقوى اليمينية بعدئذ وصفها بالمسرحية! وهو وصف يعبّر عن جهل فظيع بالطابع القومي لشعبهم، وما حققه عبدالناصر من شعبية مصرية وعربية جارفة عشية النكسة، ولم تكن صدمة الرجل الاستغرابية من رفض الشعب المصري استقالته ومطالبته إياه بالبقاء في الحكم بأقل من صدمته من الهزيمة نفسها، وعبّر عن هذه الصدمة أمام محمد حسنين هيكل بالقول: "والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم".
والحال أن التصعيد الذي اتبعه عبدالناصر مع إسرائيل في الأزمة (سحب قوات الطوارئ الدولية، وإغلاق خليج العقبة) جُر إليه جراً، ووجد نفسه في نهاية المطاف محاصراً بموقف يصعب عليه التراجع عنه، ولم يكن ينوي أصلاً الدخول في حرب مع إسرائيل - كما نوهنا في مقال سابق - يعلم يقيناً بأن ميزان القوى العسكري بين بلاده وبينها مختل بشدة لصالح الأخيرة، وكان يُمني نفسه بتكرار إنذار سوفييتي، كالذي حدث في حرب 1956 والذي تضافر مع الموقف الأميركي المناوئ للعدوان الثلاثي، ما أفشله وقتذاك، في حين أن واشنطن في هذه الحرب شريكة في عدوان 1967. أما موقف القيادة السوفييتية الجديدة فقد كان شديد الحذر من الدخول في مغامرة كالتي خاضها خروتشوف في أزمة الصواريخ الكوبية 1962، وقد توافرت ثلاث فرص اُهدرت لتفادي الكارثة، من بينها مبادرة سوفييتية لجمع ليفي إشكول رئيس الحكومة الإسرائيلية مع عبدالناصر في موسكو.. وتلك الفرص لو اُستغلت أي منها لكان بإمكانها أن تسهم في تفادي النكسة، أو على الأقل التخفيف من حجم كارثيتها، لكن للأسف جرى إهدارها في الأيام القليلة التي سبقت اليوم الأول من الحرب في الخامس من يونيو، بل حتى قبيل سويعات من الضربة الجوية التي قصمت ظهر السلاح الجوي المصري وهو رابض على الأرض. ومن هذه الفرص: 
الفرصة الأولى: تتمثل فيما كشف عنه يوري كوتوف وهو مسؤول رفيع في لجنة أمن الدولة (كي جي بي) حيث عمل الاتحاد السوفييتي، مستغلاً ما يتمتع به من علاقة دبلوماسية مع إسرائيل وعلاقة ممتازة مع مصر، على التحضير لاجتماع سري بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول والرئيس المصري عبدالناصر بغية نزع فتيل الأزمة، وحصلت موسكو على موافقة الطرفين، وهذا دلالة على واقعية عبدالناصر ورغبته في الخروج من الورطة التي وجد نفسه فيها، إلا أن التزامه بالتشاور مع سوريا التي تربطها مع مصر معاهدة دفاع مشترك ويحكمها حينئذ جناح يساري متشدد من حزب البعث، حال دون إتمام الصفقة السياسية، حيث رفضت دمشق هذه المبادرة السوفييتية من منطلق المزايدات السياسية القومية، وخشى عبدالناصر من جانبه أن تتعرض مكانته وزعامته الوطنية والقومية للاهتزاز، إذا ما عملت دمشق على التشهير به، ما لم يرفض المبادرة السوفييتية.
الثانية: تتمثل فيما ذكره السفير المصري في موسكو وقت الأزمة مراد غالب، إذ روى في تصريحات إعلامية بأنه وجه دعوة لحضور مأدبة عشاء يقيمها في الخامس من يونيو إلى مجموعة من السفراء من بينهم السفير الأميركي طومسون، لكن هذا الأخير اعتذر عن الحضور؛ لأنه ستقع في مثل هذا اليوم - على حد تعبيره - أحداث مهمة وخطيرة في الشرق الأوسط، واستنتج مراد من كلامه بأن موعد الهجوم الإسرائيلي سيكون في ذلك اليوم، ومع أنه أرسل برقية إلى القاهرة عاجلة لإخطارها بهذه المعلومة الخطيرة، إلا أنها تعثرت بيروقراطياً ولم تصل إلى القيادة المصرية في الوقت المناسب!
الثالثة: حسب مقابلة تلفزيونية أجراها عماد الديب في قناة أوربيت مع الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الأسبق، فقد استلمت القيادة العسكرية المصرية إشعارين عن تأهب القوات الإسرائيلية للهجوم في الصباح الباكر من الخامس من يونيو، الأول من الخطوط الأمامية في سيناء، ولم يتعامل معه المشير بالجدية الكافية، والثاني ورد من الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان القوات العربية الموحدة والذي كان مرابضاً في قمة عجلون في الأردن، حيث كشف راداره أول طلعة لسرب من المقاتلات الإسرائيلية متجها إلى البحر نحو بور سعيد، وأرسل الكود المتفق عليه "عنب.. عنب.. عنب" بمعنى ثمة هجوم جوي إسرائيلي في طريقه إلى مصر، لكن الإشعار صب في مكتب شمس بدران وزير الحربية بقصر القبة، بدلاً من أن يصب في غرفة العمليات في مدينة نصر، وحيث وصل متأخراً بعد أن بدأ ضرب القواعد الجوية!
وإذا كان غياب الجاهزية القتالية للجيش المصري حال دون إنقاذ السلاح الجوي من الدمار شبه الكامل، وبالتالي التخفيف من هول الضربة، فإن التفريط في المبادرة السوفييتية لترتيب اجتماع في موسكو بين الرئيس عبدالناصر ورئيس الوزراء الإسرائيلي إشكول والذي كان من الممكن أن يجنب مصر والدول العربية كارثة حقيقية محدقة يُعد في تقديرنا خطأ جسيما، أياً كانت الاتهامات وعبارات التخوين التي ستلحق بعبدالناصر من منافسيه المتربصين به من القوى القومية العربية الحاكمة، فالمبادرة تستحق الموافقة عليها، ولو من باب اعتبارات المساومة التاريخية الضرورية مع العدو؛ لمنع وقوع كارثة بأمة بكاملها، أو من باب الاعتبارات التكتيكية، حتى يمكن تجنب تلك الكارثة المحدقة، ومن ثم إعادة بناء الجيش على أسس سليمة، وصولاً إلى تحقيق ما أمكن لتعديل ميزان القوى العسكري، ولو بتخفيف درجة اختلاله لصالح إسرائيل.

كاتب بحريني
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .