العدد 5341
الثلاثاء 30 مايو 2023
banner
الحكيم وأسلوب الأنبياء
الثلاثاء 30 مايو 2023

سافر الحكيم إلى باريس للحصول على الدكتوراه سنة 1925، والحقيقة أن إرساله إلى فرنسا من قبل أبيه كان هدفه إبعاده ونفيه تماما عن الوسط المسرحي الذي كان منغمسا فيه، لكن متى كان النفي والإبعاد حائلا بين الفنان وإبداعه.
لقد جعل توفيق الحكيم من باريس وطنه الفني، يقول: كنا هناك نجمع أعقاب العلم من كل مكان كما يجمع الغلمان في مصر أعقاب السجائر، إلى أن اتسعت أذهاننا بالمران، كنا نلتهم الأسفار التهاما. إن باريس لم تكن قط امرأة، إنما كانت كتابا مفتوحا هو سفر الحياة العليا. أخذ الحكيم نفسه بالجد والدأب لتحقيق حلمه في الفن والإبداع، وكان ذلك بالطبع على حساب دراسته وحلم الأسرة في حصوله على الدكتوراه. كان يقضي وقته كله منحيا على مكتبه في الحجرة 48 في أحد شوارع باريس يقرأ ويقرأ حتى قرأ كل شيء تقريباً، فلم يترك شيئا في تاريخ الفكر لم يطلع عليه، لقد غرق في آداب الأمم وفلسفاتها وفنونها، ولم يكن يسمح لنفسه أن يجهل فرعا من فروع المعرفة لأنه كان يعتقد أن الأديب يجب أن يكون موسوعيا كما ذكر في كتابه زهرة العمر الذي تحدث فيه عن حياة كانت كالزهرة التي تفوح بالعطر والجمال في باريس.
لم ينجذب الحكيم إلى دراسة الدكتوراه واعتبر المعارف الجامعية قيدا لأنها محددة بأنواع معينة من الكتب والقراءات بينما يقول عن نفسه: "خلقت لتقرأ ما تريد وقتما تريد لتحيط علما بكل شيء وتسعى إلى تأمل كل شيء وتستبقي في الذاكرة ما تشاء وتنسى ما تشاء". لكن ماذا يفعل الحكيم مع أسرته عندما يسألون عن الدكتوراه التي يجب حصوله عليها؟ 
كان خلال الأربع سنوات التي قضاها في باريس يخاف أن يعود إلى مصر في الإجازات لأن والده سيسأله عن الشهادة، لذلك كان يحرص أن يظل دائما في باريس هربا من الإجابة، ويرسل لهم: إنني مازلت أدرس أو عندي ملحق إلى آخر هذه الحجج، حتى صدمت الأسرة بعودته دون الحصول على الدكتوراه.
من الأشياء الرائعة التي تعلمها الحكيم في باريس: كيف يكون الأسلوب سلسا بسيطا بعيدا عن التقعر؟
ففي الماضي كان الأسلوب السليم يعني اللغة المتصنعة المنمقة وكان الحكيم يكتب بهذه الطريقة حتى نصحه أحد الأصدقاء الفرنسيين بألا يكتب باللغة الفرنسية لا لأنه لا يحسنها، إنما بالعكس، لأنه يراه يتكلف وينمق أسلوبه فلا تظهر روح شخصيته في الكتابة. وانتبه الحكيم إلى أن الكاتب الصادق في شعوره هو الذي يصنع أسلوبه، والبلاغة الحقيقية كما قال لجمال الغيطاني: هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي الرسمي والتسامي في الفكرة، هكذا كان أسلوب الأنبياء في حياتهم، انظر إلى سيدنا محمد وإلى عيسى، بساطة في الملبس، وتواضع في المظهر، وسمو في الشعور والتفكير.
وهكذا كان أسلوب الحكيم قادرا على أن يجذبنا لنحلق معه في أعقد الأفكار بسهولة ويسر، لا نحس معه بعناء.. الأفكار متدفقة، واللغة طيعة، وخياله الطليق ليس له حدود، وتلك إحدى سمات عظمته.

كاتب مصري

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .