في إحدى محطاته اللغوية التراثية الطريفة يتوقف الإعلامي اللغوي الفلسطيني الأستاذ عارف حجاوي عند بعض مشاهير الفلاسفة والعلماء ممن لم يتزوجوا،كالفيلسوف الفرنسي فولتير، وعالم الجاذبية أسحاق نيوتن، وكذلك الفيلسوف "كانت" الذي يفضل حجاوي بأن يُكتب اسمه "كانط" منعاً من الالتباس.
أما من مشاهير الفلاسفة العرب فقد أكتفى بالمؤرخ الطبري. ولعله فاتته الإشارة إلى الدكتور الاستاذ فاضل جابر ضاحي الذي وضع كتاباً بعنوان "العزوف عن الزواج بين المؤلفين في العصور الوسطى" أحصى فيه ما لايقل عن 66 عالما ممن أشتهروا بمؤلفاتهم المهمة في مختلف العلوم والمعارف.
لكن قبل أن نتناول ما جاء به كل من حجاوي وضاحي عمن لم يتزوجوا من مشاهير فلاسفة وعلماء العرب والغرب، لا بأس لو نتوقف قليلاً عند معاني ودلالات عدم الزواج في اللغة.
الانكفاء عن الزواج طوعاً أو لظروف قسرية حالت دون ولوج المرء عش الزوجية يُعرف في معاجم اللغة ب" الصرورة أو "الصارورة"، فالرجل العازف عن الزواج يُسمى بإحدى هاتين التسميتين المترادفتين، وتُطلقا أيضاً على من لم يحج. كما اُطلق على الرجل العازف عن اللهو والنساء " عزهاة".
ويٌطلق أيضاً على من لازوجة له بالأيّم وهو حال من ليس له زوجة سواءً طلقها أو ترمل، ويُعرف كذلك بالأعزب. ومع أن المؤلف الدكتور ضاحي أورد في كتابه طائفة من هذه التسميات التي تطلق على العازفين عن الزواج، لكن ظل المجتمع العربي ومازال قاسياً في نظرته إلى الفتيات اللواتي فاتهن قطار الزواج، لأمر أو وتقاليد بالية لا حيلة لهن فيها، من بينها تحكم أهلها في إختيارها شريك حياتها، وغلاء المهور وأستحكام تقاليد منع الأختلاط.
وإذ تخص مجتمعاتنا العربية إطلاق لفظ عانس على المرأة، فإن الأصل في هذه المفردة في اللغة تنسحب على من فاته سن الزواج من كلا الجنسين على حد سواء.
قسّم المؤلف ضاحي كتابه إلى أربعة فصول، فبالإضافة للفصل الأول الذي تناول فيه معاني العزوف عن الزواج، تناول في كل فصل من الفصول الثلاثة اللاحقة حقبة زمنية من مشاهير المؤلفين والعلماء العازفين عن الزواج، ففي الخمسة قرون الهجرية الأولى كان من أبرزهم أبي عبد الله بن أبي نجيح يسار الثقفي وكان من المحدثين، وخالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم التميمي المنقري البصري الذي أشتهر بفصاحته وثرائه وبخله، وكذلك البغدادي الحارث المروزي الذي أشتهر بثقافته في الحديث وبزهده وورعه. والنحوي المشهور يونس أبو عبد الرحمن بن حبيب البصري.
ومن العلماء الذين آثروا العلم على الزواج العالم اللغوي الكبير أبو بكر الأنباري ، وقد أستشهدنا في مقالات لغوية قديمة عديدة نُشرت في أواخر القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة، بما له من ضلوع وتبحر لغوي كبير في تأصيل المفردات العربية. وساق المؤلف في الفصل الثالث طائفة اخرى من المؤلفين والمنقطعين للعلم في القرنين السادس والسابع هجريين، فذكر من شعراء الأندلس الشاعر إبراهيم بن أبي الفتح الهواري، والشاعر بن الحسين بن موسى بن عمران الميرتلي الذي عُرف بزهده ومات عزباً عن 82 عاماً.
والنحوي المصري بهاء الدين ابن النحاس كما يتناول في الفصل الرابع العازفين عن الزواج في القرون الثامن والتاسع والعاشر هجرية، ويُلاحظ أتصاف هذه الحقية الزمنية بارتفاع أعداد العازفين عن الزواج. ويعزو المؤلف ذلك لعشق الكثير منهم للعلم والتأليف ومخافتهم بأن تشغلهم الحياة الزوجية عن مهمتهم العلمية التي أنقطعوا إليها. لكن في تقديرنا وإن عُد ذلك سببا فلا نظنه سبباً رئيسياً أو وحيداً . ولو فتشنا في تراثنا العربي القديم والحديث، لربما وجدنا أن أكثر الشعراء الذين نظموا قصائد في الحُب وعبروا عن خوالج المحبين ومعاناتهم وكأنهم عايشوها ومروا بها، هم أنفسهم لم يعرفوا طعم الحُب قط، وظلوا طوال حيواتهم يعانون من الصارورة. ولعل من هؤلاء الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد، وإن كانت له قصائد معروفة في العشق الحقيقي.
ولا تفوت اللغوي حجاوي في معرض تعليقه على انكفاء فيلسوف الحرية الشهير فولتير عن الزواج، الإشارة إلى أنه نُصح بالتقليل من القهوة لأنها سم قاتل بطيء، لكنه رد ساخراً من النصيحة: أنه حقاً سم بطيء، فأنا منذ 65 ومازلت أتناول خمسين فنجانا منها في اليوم. وقد عمّر صاحبنا إلى 83 عاماً.
أما في معرض تعليقه على الفيلسوف "كانت" أو "كانط" الذي لم يتزوج ولم يعشق قط، فقد وافق حجاوي المغاربة في تحبيذهم كتابته بالطاء، كما مر بنا، وكذلك في لفظهم التاكسي بالطاء، وكذلك مسمى شركة طوطال بدلاً من توتال. وأخيراً يُذكْرنا حجاوي بمحنة الإمام الطبري الذي تعرض للأذى من الرعاع، بما في ذلك تجويعه، فعلاوة على معاناته من العزوبية طوال حياته، حاصر الرعاع منزله في نهاية حياته، رغم أنه من كبار المؤرخين، وأنتهى الحصار بوفاته عن 86 عاماً، ومع ذلك فقد منعوا اخراج جثته من داره ودُفن فيه. وأخيرا لاتفوت حجاوي الإشارة إلى أن العالم اسحاق نيوتن الذي أكتشف قانون الجاذبية ومات عزباً إلى أن من روّج خرافة اكتشافه قانون الجاذبية من خلال تأمله لسقوط تفاحة كان جالساً بجوار شجرتها، متسائلاً: لماذا سقطت إلى الأسفل؟ هو معاصره فولتير نفسه.