العدد 5251
الأربعاء 01 مارس 2023
banner
فضاءات لغوية رضي السماك
رضي السماك
أهم مآثر الشدياق اللغوية والإعلامية
الأربعاء 01 مارس 2023

يصف الأستاذ الفلسطيني في الجامعة الأميركية في بيروت طريف الخالدي مواهب أحمد فارس الشدياق المتعددة بأنه كان رائداً في ميدان الصحافة السياسية، وعلاّمة لغوياً لا نظير له، ومترجماً شهيراً للكتاب المقدس ودرّاسة بارعاً للمجتمعات ومصلحاً اجتماعياً وفكرياً ومناظراً حدقاً شديد المراس( بدايات، العدد٢٢/ ٢.١٩).

وإذ شبّه  الخالدي منزلة الشدياق في الفكر واللغة بمنزلة الجاحظ في زمانه، فإن الناقد والقاص اللبناني التقدمي مارون عبود وضعه بمنزلة العالم اللغوي النحرير سيبويه مقتبساً في هذا الصدد مقولة لعبد القادر المازني في تعظيمه إياه" من أراد أن يؤلف كتاباً بعد سيبويه فليستح" .

وإذ أبدى  الخالدي أرتياحه لترجمة "الساق على الساق" إلى الإنجليزية ، منوهاً بأهمية ترجمة أيضاً كتابه الفذ " كشف المخبأ من فنون أوروبا"، فإنه يصف قدراته اللغوية الاستثنائية  في الكتاب الأول " كمن أخذ اللغة بيده ونثرها عالياً في الهواء ثم التقطها وهي تهوي، صانعاً منها شلالات من المترادفات التي هي في الوقت ذاته حركة صياغة رائعة وخالية من التوقير والاحترام". 


ويمكننا من كل ما تقدم في هذه الحلقة والحلقات الماضية أن نبرز أهم مآثر لغوية عظيمة تفرد فيها الشدياق في اللغة والأدب والصحافة ولم يسبقه أحد فيها بلا منازع: 


1- أحمد فارس الشدياق هو أول لغوي عربي وضع علامات الترقيم، وعني بجعل الصفحة المطبوعة بشكل عصري، كما يذهب الخالدي في المصدر السابق، بما في ذلك جعل فراغ ببن الكلمات ليظهر كل كلمة على حدة ومضيفاً هوامش عريضة تريح القارئ.

ويُعد كتابه" اللفيف في كل معنى طريف" هو أول نص عربي مطبوع اُدخلت فيه علامات الترقيم المأخوذة عن المطبوعات الغربية منذ بداية عهد غوتبرغ، شارحاً في مقدمة كتابه سبع علامات ووظائفها درءاً من التباس القارئ:  الفاصلة والشرطة والنقطتين والتعجب والاستفهام  والمزدوجتان والنقطة.

لكن محاولاته التجديدية هذه جوبهت بالرفض، من قِبل القراء ولفيف من اللغويين؛ وبسبب ذلك ظل متأرجحاً في استخدامها،  يتركها حيناً أو يوظفها توظيفا جزئياً حيناً آخر في نصوص مؤلفاته. وظلت علامات الترقيم غريبة على النثر العربي حتى مطالع القرن العشرين، رغم ما تلفتنا إليه الباحثة اللبنانية هالة البزري بأن المطبعة الكاثوليكية التابعة للكلية اليسوعية ظلت متأثرة في مطبوعاتها في بدايات القرن العشرين بالحضارة الفرنسية، وكثيرا مااستخدمت علامات الوقف( البزري، بدايات، العدد٢٢/ ٢٠١٩). ولم يتم اعتماد علامات الترقيم في العالم العربي إلا بعد أن أصدر العالم اللغوي  المصري أحمد زكي باشا عام 1912 رسالة عنوانها "الترقيم وعلاماته في اللغة العربية" عن المطبعة الأميرية في القاهرة . وكان لهذه الرسالة،التي حظيت بدعم من وزير المعارف أحمد حشمت باشا، أثر في اقتداء  المطابع والأدباء العرب بها.

وبهذا فإن عام ١٩١٢ هو العام الذي استخدمت  فيه علامات الوقف في الطباعة العربية الحديثة كما تذهب البزري. بينما اُسدل التراب على جهود الرائد الأول في استخدامها ألا هو الشدياق التي ظلت على حد تعبيرها "مجّهلة أكثر مما هي مجهولة، ووقعت ضحية التعتيم والرقابة والمنع وحتى التحريم" .


2- الشدياق هو رائد استحداث  ألفاظ عربية غدت شائعة جداً في عصرنا، حيث دخلت حياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن هذه المفردات: الاشتراكية، الباخرة، الجامعة، الطابع البريدي، جواز السفر، ممثل، الشورى، النواب، انتخاب ، الصيدلي، الصيدلية، نزل أو فندق، مصنع ، مستشفى، ملاكمة، جريدة، المتحف، الملهى، الحافلة، المعرض. ولم يصل إلى اصطفاء هذه المصطلحات بدلالاتها إلا بعد ثمرة تدرج من المعاناة والتبديل، وصولاً إلى أدقها في التعبير دلالةً( عماد الصلح، أحمد فارس الشدياق، آثاره وعصره، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية، ١٩٧٨، بيروت ص ١٤٩، ).  


3- الشدياق أول من أدخل في الصحافة العربية فن المقالة وترجم مقالات من الصحافة الأجنبية في جريدته "الجوائب". وطالب في صحيفته  بإنشاء  هيئة لإقرار الألفاظ العربية لمسميات الحضارة الحديثة. 


ووظّف كل قدراته اللغوية لتعريب الألفاظ الأجنبية، سواء باللجوء إلى النحت، وهو أسلوب شائع في اللغات الأجنبية، أو من خلال الترجمة الحرفية أو بإحلال  ألفاظ عربية بكلمتين أو أكثر تفي المعنى. 


إن أبرز  ما في الشدياق -على حدتعبير الصلح-  أنه كان وثبة نوعية في الأدب بالقياس إلى أدباء عصره، وخصوصاً في كتابيه "الساق على الساق" و " كشف المخبأ"  وفي كتاباته بالجوائب ( الصلح: ص ١٥٦). 


ويضيف الصلح: "لقد فك عن الإنشاء هذه الأثقال والقيود التي جمدت الأدب العربي عقوداً عديدة وأزال سطوة البديع. وجعل الكتابة أداة سائغة للتعبير عن نزعات النفس وخلجاتها ومحيط العقل وقضاياه، وألبس المعاني ما يناسبها من ألفاظ فجاء بيانه حراً سهلاً يرسل على السجية ، لا ينم على أي تكلف، بل فيه ذوق وأناقة. ساعده في ذلك ذاكرة لا تحد في معرفة مفردات اللغة وذوق مرهف وبراعة في التعبير. وساعده أيضاً اطلاعه على أدب الغرب . وإذا كان من الصعب على الكاتب أن يبقي في نظرته إلى الأدب وأغراضه وأسلوب الكتابة تقليدياً فإن النزعات كفيلة بتطوير ذوقه الأدبي" ( الصلح: ص ١٥٨). 


وقد تعرضت صحيفته الجوائب للإغلاق  مرات عديدة، على الرغم من محاولاته مهادنة حكام زمانه العثمانيين لتأمين رغيف يومه ومسكنه وإدامة شغفه بتطوير اللغة والصحافة العربية والإصلاح الفكري والاجتماعي،  إلا أنه كان يمقت استبدادهم  وفسادهم وعنصريتهم ضد العرب مقتاً شديداً. 


وفي العشرين من سبتمبر/ أيلول سنة 1887 توقف قلب مفكرنا ورائدنا المصلح والعالم اللغوي والأدبي والإعلامي الكبير أحمد فارس الشدياق عن النبض في مدينة أسطنبول، وكان قد أوصى بأن يُدفن في مسقط رأسه ببيروت، فنقل جثمانه بالباخرة إليها، وصلي عليه في مأتم عظيم في الجامع العمري.    
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .