تطورت كرة القدم عند الأوروبيين أكثر من غيرهم في العالم، لأنهم تعاملوا معها بشكل مؤسسي، فالنادي في أوروبا يعقد جمعية عمومية فاعلة ويدفع الأعضاء اشتراكاتهم السنوية، وكل عضو منهم يتمتع بامتيازات المشاركة الفعالة في الانتخابات، ويشعر بالانتماء الحقيقي إلى الكيان عبر مساهمته في صناعة القرار.
وشهدت آخر 25 سنة تفوقا أوروبيا في الظفر بألقاب كأس العالم، بفضل التخطيط المستمر لتطوير اللعبة كمنظومة متكاملة، تعتمد على العلم، وقد ذكرنا بالأمس، أن الصراع الأزلي على ألقاب المونديال ظل محصورا منذ العام 1930 ولغاية 2022 بين منتخبات قارتي أوروبا وأميركا الجنوبية برصيد 12 للأولى و10 للثانية. وتنقسم الألقاب على النحو التالي ونبدأ بقارة أوروبا: 4 كؤوس لألمانيا ومثلها لإيطاليا، ولقبان لفرنسا ولقب يتيم لكل من إسبانيا وانجلترا، مقابل هذه الحصيلة لقارة أميركا الجنوبية: 5 كؤوس للبرازيل، 3 كؤوس للأرجنتين، 2 للأوروغواي، وذلك في 22 نسخة سابقة، ما يعني أن 8 منتخبات فقط استطاعت الظفر بالكأس العالمية 5 من أوروبا و3 من أميركا الجنوبية!
هذا ما يبرر وجود أقوى الأندية والمسابقات الكروية في أوروبا، برغم أن عشق كرة القدم في القارة العجوز لا يضاهي غريمتها أميركا الجنوبية، التي تعد الساحرة المستديرة جزءا لا يتجزأ من تفاصيل حياتها اليومية، لكن بطولة بهذا الحجم لا يمكن أن يكون العشق هو العنصر الوحيد الذي يتطلبه الوصول للمباراة السابعة والفوز في نهائي كأس العالم.
على رغم ذلك قدم هذا المونديال صورة جميلة عن كرة القدم التي نحب، عاطفيا وإنسانيا، وشهد اللعبة تغييرات جذرية بسبب استخدام التقنيات الحديثة وهو ما يعني عدم الاكتفاء بالقدرات البشرية بصورة مطلقة، لتحديد خروج الكرة ودخولها إلى المرمى واحتساب الأخطاء وركلات الجزاء، وهي جزئيات تحدد نتيجة مباراة بأكملها، وشاهدنا الكم الهائل من الأهداف التي ألغيت وركلات الجزاء التي احتسبت بسبب تقنية الإعادة التلفزيونية المعروفة بـ ”الفار”، فضلا عن وجود مجسات في الكرة الجلدية ذاتها، للحصول منها على بيانات دقيقة مثلما حدث في حالة فريدة لم يحتسب هدف لصالح رونالدو على رغم أن عدسات الكاميرات أظهر في حينها كما لو أنه لمس الكرة ولو بخصلات شعره!
ومن الصور الجميلة في المونديال، التألق اللافت للمنتخب المغربي الذي اخترق مناطق محرمة في منافسات كأس العالم، وتأهل للمربع الذهبي كأول منتخب من قارة إفريقيا وأول منتخب عربي يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة بعد 80 سنة من أول مشاركة لمنتخب إفريقي في كأس العالم، والمصادفة هنا أن هذا المنتخب عربي أيضا ألا وهو منتخب مصر. تألق المنتخب المغربي في هذا المونديال يعود لأسباب وعوامل عدة، لعل أبرزها عمق الفكر الاحترافي الذي يتمتع به المدرب المغربي وليد الركراكي، فقد استطاع منذ الوهلة الأولى أن يكسر “تابو” المنافسة التقليدية، ودخل مع كوكبة من نجوم بلاده إلى مناطق غير معهودة. إن الشجاعة في كرة القدم مثل السيف بالنسبة للمقاتل في أرض المعركة، والمقصود بالشجاعة هنا، ليس المواجهة بصدر مفتوح دون أن تكون عندك الأدوات والأسلحة اللازمة حتى للدفاع عن نفسك، فضلا عن التسلح بمعنويات متحررة من “العقد النفسية”، التي تقتل الرغبة والطموح في تغيير مجرى التاريخ!
وحافظ المنتخب المغربي في مبارياته بكأس العالم، على شخصيته القوية، وتركيزه الكبير، وآمن بقدرات أبنائه ولاعبيه، وعاش الحلم، حتى وجد نفسه أمام بطلة العالم فرنسا على بعد خطوة من النهائي، وفي هذه اللحظة الحساسة والحاسمة فرض المنطق نفسه، وهنا توقف أسود الأطلس أمام فريق لا يستهان به، فيا ترى هل كان بالإمكان أكثر مما كان؟
لقد لعب المغرب في كأس العالم تحت شعار “كل شيء بالإمكان”، واستمد قوته من “ضغط جماهيري إيجابي”، بفضل تعامله الرائع مع مجريات البطولة وتحقيقه نتائج لافتة وغير مسبوقة، فتقدم وتجرأ وفتح الباب على مصراعيه للمنتخبات الإفريقية والعربية علهم يعيشون ذات الحلم، دون التوقف الطويل عند التفاصيل، التي يكمن في داخلها شيطان اليأس!