حددت منظمة الأمم المتحدة تاريخ اليوم؛ 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، فأصبح العالم كله يشاركنا اليوم الاحتفاء والاحتفال بلغتنا العربية، لغة الضاد الجميلة، وهو حدث يذكرنا بأنشودة كنا نرددها في المدرسة ونحن صبية صغار عندما كنا لا نزال نحلم؛ الأنشودة تتغنى بوحدة الأمة العربية فتقول: بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدانِ، ومن نجد إلى يمن.. إلى مصر فتطوان، فلا حد يباعدنا.. ولا دين يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا.. بغسان وعدنان؛ إلى آخر القصيدة أو الأنشودة التي لم يصمد منها أمام الحقيقة إلا سطر واحد فقط وهو المتعلق بلسان الضاد الذي يجمعنا.
وبالفعل لا يوجد شيء اليوم يبرر ادّعاءنا بوجود الأمة العربية إلا اللغة العربية، ولم يبقَ شيء يجمعنا نحن العرب إلا هذه اللغة، فأهواء وتوجهات وأهداف كل دولة من دولنا تختلف عن الأخرى وفي كثير من الأحيان تتنافر وتتناقض وتقود إلى الاقتتال فيما بينها، والكتلة الجغرافية الواحدة التي كانت تضمّنا قسمناها ووزّعناها وأقمنا بين أجزائها الحدود والأسوار والحواجز ونقاط المراقبة والتفتيش ما ساهم في إبعادنا عن بعضنا البعض، وأصبح العربي ممنوعًا من دخول معظم الدول العربية أو التنقل بحرية بينها، عزاؤنا الوحيد حيال هذا الواقع المرير المؤلم هو أن اللغة العربية لا تحتاج إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول؛ فهي قادرة على عبور الحدود واختراق الحواجز والقفز فوق الأسوار. ومن خلال أمواج الأثير ووسائل الإعلام والمنصات الرقمية صارت اللغة العربية تحقق الاتصال والتواصل بين شعوب الدول العربية وتتغلغل بين مجتمعاتها وفي صميم وجدانها.
اللغة العربية وحدها هي التي تجمعنا نحن العرب؛ وليس وحدة الدم أو العرق كما يدعي البعض، فالدم العربي لم يبقَ صافيًا نقيًّا فقد تبخّر وذاب وامتزج بدماء الشعوب الأخرى التي اختلطنا بها أو التي غزوناها وافتتحناها في مختلف الأمصار والقارات.
والدين الإسلامي الحنيف نزل على العرب، لكنه ليس حكرًا عليهم؛ على خلاف أبناء عمومتنا اليهود الذين يؤمنون بأن الديانة اليهودية حكر عليهم وحدهم بعد أن اختارهم الله واصطفاهم دون سواهم من الأمم والشعوب لحمل الرسالة السماوية، وبهذا الفكر فإنهم دمجوا مفهوم القومية بالديانة فأصبحت اليهودية تعني الهوية القومية التي تجمعهم، والإسلام ليس هوية منحها الله للعرب وحدهم بل على العكس فهو رسالة وهوية يشترك فيها إلى جانب العرب مئات الملايين من البشر من مختلف الأجناس والأعراق، وقد أعطى الله العرب إلى جانب غيرهم من الشعوب والأمم مهمة نشرها بين البشر جميعًا، وفي حقبة من حقب التاريخ أبلي الأتراك بلاءً حسنًا في هذا المضمار، فاللغة العربية تجمع العرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ومن المفارقات المؤلمة أيضًا بهذا الصدد هي أننا جعلنا من الدين الإسلامي عاملًا للتفرقة فيما بيننا عوضًا عن الجمع والوحدة، فلم تتوقف النزاعات والحروب العربية - العربية منذ 14 قرنًا، وكم من الدماء العربية سفكت باسم الإسلام بين مختلف مكوناته وأتباعه؛ بينما بقيت اللغة العربية توحدنا ولم نسفك دماء بعضنا بعضًا من أجلها أو بسبب اختلاف لهجاتها أو التباين القائم بين فصحاها وعاميتها.
اليوم، وفي هذا العصر، ما الذي نستطيع أن نعتز ونفخر به نحن العرب؟ أين الإنجازات والمساهمات التي نقدمها اليوم إلى الإنسانية وإلى ركب التقدم والحضارة ونحن نعيش حالة من التخلف والانهزام والانقسامات؟ اللغة العربية هي الشيء الوحيد الذي نفخر ونعتز به، وبقاء اللغة العربية ونقاؤها ومحافظتنا عليها هو الشيء الوحيد الذي يخفف من وطأة إحساسنا بالمرارة، والفضل في ذلك يعود إلى القرآن الكريم.
وقد أصبحت اللغة العربية اليوم إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة، وتحتل المركز الرابع أو الخامس من حيث اللغات الأكثر انتشارًا في العالم؛ يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة، وهي الرابعة من حيث عدد المستخدمين على الإنترنت، وتعترف بها 27 دولة كلغة رسمية، وهي أغزر اللغات بالمفردات إذ تحتوي على أكثر من 12 مليون كلمة.
وزحفت اللغة العربية وأصبح لها تأثير واضح في الكثير من اللغات الأخرى، ولأنني أكتب هذه الأسطر وأنا في بلاد الأندلس فسأتطرق باقتضاب شديد إلى تأثيرها في التراث والتاريخ واللغة الإسبانية، التي تعد ثاني أكثر اللغات استخدامًا في العالم وينطق بها حوالي 570 مليون إنسان، وتعد اللغة الإسبانية لغة أساسية لنحو 20 دولة مختلفة في العالم. ويأتي نحو 4000 من كلماتها مباشرة من اللغة العربية بحيث أصبح 8 % من اللغة الإسبانية أصلها عربي.
وفي الأندلس أثبتت اللغة العربية قدرتها على الابتكار والتجديد، وعلى استيعاب العلوم وإنتاجها ونقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوروبا في عصر النهضة، وباللغة العربية صارت الأندلس منارة للعلم والحضارة، وحفلت بالعديد من رجال الفكر والعلم والأدب، وأسهمت بقدر كبير في إثراء الثقافة والفكر العربي، وظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة إبان الحكم العربي الإسلامي لبلاد الأندلس الذي دام لحوالي 800 عام منذ افتتاحها على يد القائد طارق بن زياد في العام 711م إلى سقوط آخر معاقلها في غرناطة في العام 1492م إبان حكم الأمير أبي عبدالله محمد الثاني عشر المعروف بأبي عبدالله الصغير.
وحيال هذا الحدث الجلل انتفضت اللغة العربية في صورتها الشعرية لتعبر عن حجم المأساة على لسان الأميرة عائشة بنت محمد الأحمر؛ المعروفة بعائشة الحرة لتقول لابنها الأمير المهزوم مقرّعة إياه على تضييع ملكه بسبب انغماسه في اللهو:
مثل النسا فلتبكِ ملكك بعدما.. أسلمته بيديك خصمًا مجرما
غرناطة الأمجاد حاضرة الدُّنى.. كانت تطاول في علاها الأنجما
لم تحمِها مثل الرجال وإنما.. قد خنتها ورضيت أن تستسلما
فكرت في دنياك وحدك ناسيًا.. حق الشعوب لكي تعيش منعّما
وقصورك الحمراء قد عبّأتها.. بالغانيات ومن يجيد ترنما
وشغلت نفسك بالتوافه تاركًا.. كل الثغور بدون أن تُستحكما
وغمدت أسياف الجهاد حماقة.. وجعلته في العالمين محرما
إلى آخر القصيدة التي خلدت مرارة سقوط غرناطة وضياع الأندلس، وكان أول إجراء اتخذه الإسبان المنتصرون بعد سيطرتهم على كامل إسبانيا منع وتحريم استخدام اللغة العربية ومن يخالف ذلك كان يعذب ويحرق حيًّا.