لعل من أسوأ أنواع الفساد في المجتمع الدولي - دولاً ومنظمات دولية - ذلك الذي يخترق ثلاث مؤسسات في غاية الأهمية: التشريعية، والقضائية، والنقابية، وفي الفضيحة التي ما فتئت تهز الاتحاد الأوروبي المتعلقة بإحدى نواب رئيسة برلمانه، إيڤا كايلي، تجتمع فضيحة السلطة التشريعية - بصفة أساسية - مع فضيحة نقابية ذات علاقة بالفضيحة الأولى الأساسية، وتتمثل في أن أحد المتهمين في فضيحة البرلمان هو أيضاً الأمين العام الجديد للاتحاد الدولي للنقابات، بيير أنتونيو بانزيري، والذي كان نائبا اشتراكيا أوروبياً سابقا.
وعلى شاكلة رئيس أوكرانيا فولو ديمير زيلنسكي الذي كان في الأصل ممثلاً كوميديا فأصبح بقدرة قادر مالئ الدنيا وشاغل العالم، بفضل الإعلام الغربي الذي صوّره "قائداً وبطلاً وطنياً" في الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة، فإن بطلة فضيحة البرلمان الأوروبي، إيڤا كايلي (44 عاماً) لم تكن في الأصل سوى مذيعة تلفزيونية اُشتهرت في شبابها بجمالها. فكم يا تُرى يعج عالمنا المعاصر بمثل هذه الطحالب السامة في مؤسساته السياسية فائقة الأهمية، دون أن تكون لها سوى خلفيات سياسية ضحلة. كما من المفارقات الساخرة أن تتفجر قضية كايلي تزامناً مع اليوم العالمي لمكافحة الفساد في التاسع من ديسمبر الجاري، حيث جرى توقيفها بتهمة تلقيها رشاوى هائلة من إحدى الدول الخليجية (قطر) نظير شهادتها بإصلاحات أجرتها الأخيرة لتسوية قضية انتهاك حقوق عمال أجانب عملوا في تجهيز منشآت رياضية عالمية التصميم.
وخطورة فضيحة كايلي تكشف أن طحالب فساد الاتحاد الأوروبي باتت نابتة سامة في قلب مؤسسته التشريعية، وهو الذي لطالما جعل من نفسه قدوة يُحتذى بها عالمياً في النزاهة والشفافية واحترام حقوق الإنسان، وكم صدع رؤوس العالم بتنديده بأية دولة يراها تخترق هذه المبادئ، سيما أن كايلي تولت منصبها منذ 2014، ما سيؤثر مستقبلاً على مصداقية الاتحاد الأوروبي عند تشهيره بأية دولة تُتهم بمثل تلك الآفة ذاتها. فليس من قبيل الغرابة أن تكون المجر - الدولة الأوروبية العضو في الاتحاد الأوروبي - أول المسارعين للشماتة بفضيحته على طريقة "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجارة" وذلك نكاية بالبرلمان الأوروبي الذي اعتبر نظامها "نظاماً هجيناً من الاستبداد الانتخابي" والفساد في ظل رئيس حكومتها الشعبوي فيكتور أوربان.
ويُعرف أوربان بخطه الدكتاتوري ومواقفه المتطرفة في الداخل، وكذلك بحق المهاجرين العرب، دون التورع عن استخدام القوة المفرطة معهم متى اقتربوا من حدود بلاده، أياً تكن الحالة المزرية التي هم عليها. وإذ سخر من فضيحة الاتحاد الأوروبي ونكر ما وجهه برلمانه إلى بلاده، كان عليه أن يكون ملتزما مقدما بشروط العضوية فيه؛ لكي تكون بلاده ذات مصداقية في نفيها ما أنكرته، ذلك أن برلمان الاتحاد الأوروبي يُحسب له على الأقل -مقارنة بالمجر - أنه امتلك آلية في كشف الفضيحة في بيته ولم ينفها أو يتستر عليها، وقام على الفور بملاحقة أبطالها أمنياً وقضائيا، كما صادق هذا البرلمان بما يشبه الإجماع على إقالة كايلي من منصبها. ومع ذلك فلربما احتاجت هذه المؤسسة التشريعية الأوروبية وقتاً طويلا لاستعادة مصداقيتها الدولية، حتى يُسدل الستار قضائياً - بعدالة نزيهة متجردة - على تلك القضية.