العدد 5170
السبت 10 ديسمبر 2022
banner
الانتفاضة الإيرانية وغياب التضامن
السبت 10 ديسمبر 2022

في أول مقال لي، غداة مأساة الفتاة الإيرانية مهسا أميني (22 عاماً) في سبتمبر الماضي، والتي قُتلت متأثرة بعنف "شرطة الأخلاق" معها، بذريعة عدم ارتدائها حجابها أو غطاء شعرها وفق "الضوابط الشرعية" المزعومة، تنبأتُ بأن يواجه الإمعان في تطبيق هذا القانون – بالقوة - الفشل الذريع، وكان تنبؤي مبنيا على لجوء النظام لإخماد حركة الاحتجاجات النسائية الشبابية التي تفجرت حينها، إلى استخدام سياسة القبضة الحديدية الوحشية، عوضاً عن تسوية الموقف سلمياً بالتراضي مع ممثلات عن حركة الاحتجاجات وعائلة المغدورة، بحيث يتم تقديم الجناة فوراً إلى المحاكمة العادلة لا الصورية، ومن ثم مراجعة القانون توطئةً لإلغائه، لكن مكابرته عن هذا الحل فاقمت من احتقان الشارع المحتقن أصلا احتقاناً مزمنا، ما أدى إلى تحول الانتفاضة النسائية إلى انتفاضة شعبية عمت معظم المحافظات، وبمشاركة الجنسين، ولتتطور مطالبها عندئذ إلى مطالب جماهيرية أشمل من المطالبة فقط بحرية المرأة في ارتداء الحجاب أو عدمه.
وتحت تأثير قوة وزخم هذه الانتفاضة الشاملة، وتحديها - ببسالة منقطعة النظير - وحشية قمع السلطات الأمنية، أدلى قبيل أيام المدعي العام، محمد جعفر منتظري، بتصريح خجول لمّح فيه إلى حل شرطة "الأخلاق". ورغم ما يثيره هذا التصريح من لغط مازال مستمراً، بين رفض المعارضة، ومن ضمنها الحركة النسائية، لذلك التصريح وتشكيكها في جديته من جهة، ونفي جهات رسمية في السلطة بأنها تنوي حل شرطة "الأخلاق" من جهة أخرى، فإنه يمكننا القول: إن إلغاء قانون إلزامية ارتداء الحجاب، وتطبيقه بالقوة بواسطة "شرطة الأخلاق" بات في حكم المؤكد، أما إعلان ذلك رسمياً، فلم يعد سوى مسألة وقت يتحين النظام اختياره وفق الإخراج والظرف المناسبين له، بحيث لا يبدو أنه أجبر على الخضوع لإلغائه، ذلك أن نظام الملالي إن هو إلا نموذج للأنظمة الشمولية في العالم في هذه المسألة، فهو كنظام ثيوقراطي لا يعترف أصلاً بشيء اسمه "المراجعة النقدية العلنية" أو الاعتراف بالخطأ والخطيئة، كما تفعل الأنظمة الديمقراطية، إذ يصر على المكابرة وعدم التنازل لأي مطلب بسيط للشعب الإيراني، بما لا يمس "هيبته"، باعتباره نظاماً يستمد مشروعيته الأبدية من خلال إضفاء القدسية الدينية عليه.
وإذا كان النظام ما برح يتمسك بدعايته لتفسير أي احتجاج شعبي بنظرية المؤامرة، وأنها بالتالي من صنع أعداء الثورة والجمهورية "الإسلامية" ممثلين في أميركا وإسرائيل، والتي رغم ابتذالها الشديد مازالت تنطلي -للأسف الشديد - على المتعصبين له من العرب، فإن هذا النظام يتجاهل أن معارضة سياساته لم تعد مقتصرة على المعارضة السياسية، إذ ثمة أوساط قريبة من رموز قمة النظام نفسه، لا تخفي معارضتها للكثير من سياساته، وذلك منذ سنوات طوال، بل ومن ضمنها رموز تتبنى ثقافة الحجاب، وتعتبره واجباً شرعياً، إلا أنها ترفض فرضه بالقوة البوليسية، عدا رفضها الكثير من سياسته.
ولعل آخر الأمثلة على ذلك مواقف الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي الذي فاز ولايتين ولم يتحمل المرشد وحاشيته إصلاحاته، رغم محدوديتها، وبات، بعد احتجاجات 2009 ضد تزوير الانتخابات، معرضاً للحصار لأن النظام لم يعد يتحمل أية همسة انتقادية له تصدر عنه، فقد انتقد بلغة ناعمة قمع الاحتجاجات الراهنة، وتضامن بحذر مع شعار الحركة النسائية "المرأة، الحرية، الحياة" دون شيطنتها كعميلة للشيطان الأكبر أميركا. كذلك كشفت عن مواقفها المتعاطفة مع المعارضة والرافضة بشدة ما وصل إليه النظام من وحشية غير مسبوقة تجاه حركة الاحتجاجات الراهنة، منذ ثلاثة شهور تقريباً، بدري حسيني شقيقة المرشد خامنئي، والتي اُعتقلت ابنتها مراد خاي في نوفمبر الماضي لنفس السبب. دع عنك سياسة التصفيات وأحكام الإعدام التي يتبعها النظام بحق كبار المراجع والمشايخ، لمجرد إعرابهم عن اختلافهم معه في هذه السياسة أو تلك السياسات، منذ قيامه قبل 40 عاماً ونيف.
وإذا كانت "نظرية المؤامرة" المبتذلة لم تنطلِ على الشعب الإيراني الذي ما فتئ يسخر منها، فمن المؤسف حقاً أن تنطلي على المتعصبين له بشدة في عالمنا العربي، ناهيك عن الموقف المتخاذل لحركات المعارضة اليسارية العربية - مؤسسات وناشطين وناشطات - تحت وهم نصرته القضية الفلسطينية خشية ما قد يُحسب اصطفافهم مع حكومات بلدانهم في هذا الشأن، بحيث يحجمون عن التضامن مع الحركة النسائية الإيرانية والانتفاضة الشعبية الإيرانية برمتها، وهذا موقف إنما يرتكز على منطق فاسد، سنعرضه للتشريح التحليلي بإذن الله في وقفة قادمة سانحة.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .