تتجلى أهمية المذكرات الشخصية من أهمية كاتبها ومدى تأثيره ودوره في الحياة العامة التي عاشها، وقد يعتني الشخص نفسه بتدوينها، أو يسمح لكاتب صحفي بكتابتها ونشرها في شكل حوار طويل متعدد الحلقات، أو يستضيفه إعلامي في برنامج تلفزيوني على حلقات لنفس الغاية. وثمة خيط رفيع بين السيرة والمذكرات، فالاولى أقدم في تاريخ الثقافة العربية من الثانية، وليست بالضرورة يعكف على كتابتها أو الأدلاء بها اصحاب السيرة أنفسهم، وتهتم في الغالب بتتبع حياة الأشخاص وفق تسلسل زمني من مهدهم إلى لحدهم، أو بلوغهم محطة معينة متقدمة من العمر.
مهما يكن فإن المذكرات تعظم أهميتها بما تتضمنه من أسرار وأحداث عامة تتصل بالتاريخ والتراث الوطنيين لم تكن معلومة قبل تدوينها. وكلما كان كاتبها أو راويها يتمتع بذاكرةحديدية أسعفه ذلك في الإمساك بأدق الأسرار وتفاصيل أحداث ذات أهمية تأريخية سياسية أو ثقافية وخلافها، وعلى العكس من ذلك فإن وهن الذاكرة قد يفوّت على راويها وقائع مهمة ذات صلة بتاريخ وطنه كان شاهداً ومؤثراً فيها.
وثمة ظاهرة سلبية يقع فيها كتّاب عديدون عند كتابة مذكراتهم، وتتمثل في السهو أو عدم الأكتراث بذكر تواريخ مهمة في محطات وأحداث سيرهم ولو على النحو التقريبي لزمن وقوعها. ووهن الذاكرة لا يرتبط بالضرورة بتقدم العمر، إذ ثمة سبعينيون وحتى ثمانيون من أعمارهم يتميزون بذاكرة حيوية يُغبطون عليها، في الوقت الذي نجد فيه الذاكرة قد تضعف لدى من هم في الثلاثينيات أو الأربعينيات من أعمارهم.
وفي تقديرنا فإن من لديهم قلق على مستقبل قوة ذاكرتهم فلعل السبعينيات من العمر هي أفضل مراحل العمر لتدوين ما تختزنه الذاكرة من معلومات مهمة مفيدة لتاريخ الوطن أو تراثه. ولعل التفكير العميق بشدة متناهية على مدار اليوم في شؤون أو قضايا محددة تشغل بال الإنسان بأكثر مما لا طاقة لدماغه تحمله-ككاتب هذه السطور- هو المسبب الأول لضعف الذاكرة وكثرة السهو والنسيان في حياته اليومية.
على أن وهن الذاكرة لا علاقة له بالغباء والذكاء، كما يتبادر لأذهان الكثيرين للوهلة الأولى، إذ يذهب علماء الدماغ في أبحاثهم إلى أن النسيان دليل عافية لتأدية الدماغ لوظائفه المعقدة وعلامة على ذكائه، وآخر الدراسات في هذا الصدد الدراسة التي قامت جامعة تورنتو البريطانية بها و نشرتها صحيفة " أندبندنت" البريطانية، وكذلك الدراسة التي أجرتها جامعة بوند الأسترالية.
وتأكيداً على نتائج مثل هذه الدراسات فإننا نرى اُمهاتنا واباءنا على سبيل المثال - بصرف النظر عن مستوياتهم الذكائية أو عما إذا فاتهم قطار العلم- يتمتعون بذاكرة حديدية مدهشة، وهي مفيدة في رواية ما تختزنه ذاكرتهم من تراث الأدب الشعبي ومن طفولتنا المبكرة قبل أن يتوفاهم الله.
وهكذا فإن الأشخاص المنشغلين بالقضايا الفكرية-بشتى روافدها الثقافية- أكثر عرضة لآفة النسيان عندما يبلغون من العمر عتيا. وتحضرني هنا مقابلة تلفزيونية اُجريت مع المفكر المصري محمود أمين العالم قبل سنتين فقط من رحيله، فمع ما يجمع عليه النقاد والفلاسفة بأنه نابغة زمانه، إلا أنه في معرض تطرقه إلى الضباط اليساريين الثلاثة في تنظيم الضباط الأحرار عجز بتألم يثير الشفقة وهو يحاول غير مرة أن يتذكر إسم واحداً منهم (يوسف صديق) وكانت نظراته مصوبة للمذيعة لعلها تسعفه بتذكر إسمه دون جدوى.
كما أن الحريصين على تدوين يومياتهم المهمة في مفكراتهم، وكذلك من يستعينون بالأرشيف لطالما ساعدهم ذلك على تدوين مذكراتهم بدقة وشمولية أكبر. ومثلما تنطوي الذاكرة القوية على أهمية في رواية المذكرات، فإن مصداقيتها تزداد حيثما تحلى صاحبها بحد أدنى من الشفافية والتواضع عند روايتها، بعيداً عن شبهة الأفراط في النرجسية وتضخيم الأدوار التي قام بها أو الأطناب فيما تحمله وما مر به من محن شخصية في سبيل المُثل التي يؤمن بها، إذا ما تذكر بأن ثمة عديدون مروا بأعظم منها ولم يرووا إلا النزر اليسير منها. والمذكرات إذ تتناول سيرة حياة الإنسان العامة لا بد لها أن تتداخل وتروى ما مرت به المدينة أو القرية التي ولد فيها صاحبها ورجالاتها من أحداث جسام و أدوار رجالاتها في كفاحهم اليومي في البحر والحقل والمعمل والحرف المختلفة، دون أن قصرها على النطاق الضيق من الحياة العائلية فحسب.
ومن أشهر المذكرات التي أثارت ضجة لفرط شفافيتها وأعترافات كاتبها مذكرات الناقد والمفكر المصري لويس عوض" أوراق العمر .. سنوات التكوين"، والروائي المغربي محمد شكري في روايته " الخبز الحافي"• أما محلياً فلعلي أرى مذكرات الصديق الأستاذ حميد الملا" أستعادة الصورة" تنطوي على قدر معقول من الشفافية والمصارحة، ولا تخلو من تسجيل لسيرة حياة القرية التي وُلد فيها ( الديه) بالترابط مع سيرته وأدوار رجالاتها في شتى المهن، سيما المتصل منها بالبحر والزراعة، ومن ثم تدوينه مامرت به من تحولات خلال غربته الدراسية فُرضت عليها بتغير معالمها، وأهمها ساحلها المدهش في جماله الذي أصبح أثراً بعد عين بين عشية وضحاها، وبذا تميز نقده لهذا "التحول" المفروض عليها بالوضوح والجرأة، وعدم المرور عليه مرور الكرام بالمواربة الخجولة أو المحاذرة، وكذلك فيما يتعلق بنقده القاسي لبعض شقاوته أثناء الطفولة، أو نقده الصريح لأفراد من أسرته، دون اغفال ما لهم وماعليهم، ناهيك عن نقده لتجارب الفكر الذي ينتمي إليه.
وممن أعرفهم -بحرينياً- بتميزهم بالذاكرة الحديدية الزميل الاستاذ عبد النبي الشعلة ( رئيس مجلس الإدارة )، ومع أنه لم يعكف بعد لتدوين كامل مذكراته إلا أنه -كما يبدو- روى صفحات منها في برنامج "حديث الذاكرة" على "اليوتيوب" وكذلك برنامج "ذاكرة الغرفة"، فضلاً عما تضمنها شذرات منها في مقالاته بالصحيفة ، وهو من الذين يرفدون عادةً قوة الذاكرة بعنايته بالأرشيف لدعمها، ومثله الأصدقاء الزملاء الدكتور عباس هلال، وإبراهيم بشمي، ومحمد الغسرة، و يوسف مكي، ومهدي عبد الله، وإن مازالوا لم يكتبوا بعد سوى نتفاً من مذكراتهم أيضاً.