ظلت قصة الهولوكوست وستظل، نقطة سوداء في جبين البشرية برمتها، فلا أحد يقبل أن يهان إنسان بسبب إيمانه أو معتقده، فما بالنا بالتعرض للموت بطريقة بشعة وقاسية، والشاهد أن هناك العشرات من القصص التي تروى من حول المحرقة، وجميعها مؤلمة ومرهقة للنفس بشكل غير مسبوق، ومن النادر أن يجد المرء فيها لمحة أو لمسة من إنسانية تبدد دياجير ظلام أوشفيتز، وغيره من معسكرات التعذيب، وما حدث فيها.
في كتابه المعنون: "مسلم ويهودية.. قصة إنقاذ طبيب مصري لآنا من النازيين"، يبين لنا الكاتب والباحث الألماني، رونين شتاينكه، أن هناك ركبا لم تجث لبعل الكراهية حتى الساعة، ونفوسا طيبة رفضت الظلم، ولم تتوقف أبدا عند حدود الاختلاف العقدي، بل تجاوزته إلى ما هو أهم، أي ما يجمع البشر من أخوة وتعددية. قصة كتاب مسلم ويهودية، باختصار تحكي شأنا مثيرا للتأمل، عن الطبيب المصري المسلم محمد حلمي، الذي وُجد في برلين، في زمن النازية، وكيف اتسع قلبه لألمانية شابة يهودية الديانة، وقد فعل المستحيل لتهريبها من ملاحقة رجالات النازية الساعين وراءها بالموت.
لإنجاز كتابه الذي بين أيدينا زار شتاينكه القاهرة ونيويورك وبرلين، وبحث في مئات الوثائق والملفات، ويمكن اعتبار أن كونه خبيرا في تاريخ معاداة السامية في ألمانيا ساعده على تفهم الجوانب العديدة لهذه القصة التاريخية. الكتاب عن فصل منسي في التاريخ، عن قصة حقيقية لكنها تبدو كالروايات البوليسية، مليئة بالقلق والترقب والصدف غير المتوقعة، لكنها تتمحور كذلك حول التحدي والكبرياء ومقاومة الشر.
تحمل صفحات الكتاب قصة الطبيب المصري المسلم محمد حلمي الذي يقرر إنقاذ شابة يهودية وأسرتها من بين فكي الوحش النازي في برلين خلال أوج قوته، وذلك من خلال تكوين حلمي شبكة من أصدقائه المصريين والعرب المسلمين لتأمين هروب متواصل لآنا من حملات النازيين. تنجح خطة حلمي لإخفاء آنا وحمايتها من الترحيل لمعسكرات الإبادة، لكنها تقترب في لحظات كثيرة من حافة الخطر، له ولها.
كيف استطاع محمد حلمي أن يخلق شخصية "الممرضة نادية المسلمة"، لتختبئ وراءها "آنا اليهودية" على هذا النحو من المهارة، وقد كانت طويلة القامة وبهية الطلعة، حتى إن وصفها أعجز بعضهم فقال عنها "شرقية" أو "جنوبية" أو "ترتدي حجابا" فماذا عساهم كانوا يقولون؟ ولعله بجانب الرواية البوليسية التاريخية والحقيقية، المشوقة والمخيفة في الوقت عينه، والتي لو كانت قد اكتشفت أبعادها، لربما بات مصير الطبيب محمد حلمي، هو نفس مصير الفتاة اليهودية آنا، نقول إنه بجانب ما تقدم، يحفل الكتاب بلمسات ومسحات عن تاريخ قديم من التصالح والتسامح بين المسلمين واليهود في ألمانيا.
يذهب المؤلف إلى أن اليهود الألمان والمسلمين الألمان كانوا على درجة كبيرة من التقارب، خصوصا في حقبتي العشرينات والثلاثينات المضطربة من القرن العشرين في برلين، حيث اكتشفوا ما يربط بعضهم ببعض وتعايشوا معا بشكل جيد. وكان هذا التعاطف فيما بينهم أمرا معروفا بوجه عام، لكن المدى الذي وصل إليه هذا التعاطف ظل مجهولا لفترة طويلة، ولم يظهر للعلن إلا من خلال ما اكتشف حديثا في أرشيف الدولة والأرشيف السياسي لوزارة الخارجية الألمانية: كان العرب يخبئون اليهود في وسط عاصمة مملكة هتلر لإنقاذ حياتهم.
إنه كتاب عن الماضي، لكنه يمكن أن يقدم إلهاما لنا اليوم، فنرى كيف يمكن لمشاعر التضامن مع الضعفاء والمضطهدين أن تكون محفزا لأعمال بطولية.