استراحة محارب، بعيدا عن السياسة ودسائسها، وفي أجواء الصيف الحار هذه، يحاول المرء الإبحار بعيدا عن مناطق الأحاديث التقليدية، حديث الساعة عن الجينوم أو الـ "دي. إن. إيه "، وثورته التي لا تزال تتفاعل حول العالم، والتساؤل المثير إلى أين تأخذنا تلك الثورة، وهل هي خير مطلق، أم شر كامل، وهل هناك سيناريو عقلاني بين الطرحين المتقدين، يقدر للعلم موقعه وموضعه من جهة، ومن ناحية ثانية لا ينافي أو يجافي الأخلاق والموروث الديني والإيماني.
في شهر يونيو الماضي، صدر كتاب "المخطط الوراثي.. كيف يجعلنا الـ "دي. إن. إيه ".. من نكون"، وذلك ضمن سلسلة عالم المعرفة، لمؤلفه "روبرت بلومين"، عالم النفس والوراثة الأميركي الشهير، ومن ترجمة نايف الياسين، أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية الآداب، جامعة دمشق. يبقى الجينوم مفتاح الشفرة الإنسانية، إذ يحمل كل خصائص المرء، من يوم ولادته، وإلى أن تنتهي رحلته على الأرض، وهو فتح جديد في العلوم الوراثية، ويقع بدوره في منطقة محيرة بين الخير والشر.
قبل نصف قرن كان الحديث عن معرفة نوع الجنين في بطن الأم ضربا من ضروب المستحيل، غير أنه اليوم بات لا يحتاج إلى جهد كبير، إذ تكفي معاودة اختصاصي الأشعة لتحديد جنس الجنين، والشاهد أن صفحات هذا الكتاب المهم، تقودنا إلى القطع بأنه عما قريب سيتمكن الأطباء والعلماء من تحديد احتمال أن يكون مولودنا الجديد عرضة للإصابة بالاكتئاب، أو الحصر النفسي، أو الفصام طوال حياته. وسنعرف مدى احتمال أن يعاني هذا المولود صعوبات تعلم القراءة أو السمنة أو مرض الزهايمر عندما يتقدم في العمر.
يكتب بلومين، وهو الحجة في اختصاصه، عن الثورة التي أحدثها الجينوم البشري، والتي ستغير من دون شك حياتنا ومجتمعاتنا، ولا يحتاج الأمر سوى معرفة متواضعة بالطريقة التي أسيء بها استخدام علم الوراثة كي نشعر بالقلق.. لماذا؟ يكاد ما كان يدور في سياق الأساطير قبل مئة عام فقط، ولا نقول مئات الأعوام، يضحى واقعا معاصرا، فهناك الآن إمكانية لتحديد عدد الأطفال التي يرغب فيها المرء، وربما نوع الجنين ذكرا أو أنثى بحسب رغبة الأبوين، وقد ذهب البعض إلى أن هناك مجالا لتحديد توجهات طفل المستقبل، بمعنى اختصاصه الحياتي، وهل سيكون عقلية علمية أم رياضية، أدبية فلسفية أم عسكرية حربية.
بلومين في كتابه يلفت الانتباه إلى قضية أخلاقية مثيرة وخطيرة في ذات الوقت تتعلق بالعلاقة بين معرفة بيانات الأجيال الجديدة التي ستولد، وبين العالم الرقمي، هذا الذي أضحت المادة الخام فيه هي المعلومات وليس الذهب أو النفط.
هل يتوجب القلق من التعطش لمثل تلك البيانات الشخصية وإتاحتها على المنصات الرقمية العملاقة مثل غوغل وفيسبوك؟
ماذا سيكون حال البشرية إذا تم التلاعب بالجينوم لحساب العسكرة حول العالم، بمعنى أن تكون هناك أجيال معملية لا تشعر بالعواطف والمشاعر الإنسانية، وجل وجودها الاستخدام في الحروب؟
ما نقوله ليس ضربا من ضروب الخيال العلمي، فهناك أبحاث قائمة وقادمة في وكالة داربا الأميركية تسعى في هذا المجال، ولا يتوقف الأمر عند حدود أميركا، إذ هناك أخبار تروج حول الصين ونزوعها للتلاعب بعالم الجينات من أجل الهدف نفسه.
الكتاب الذي يقع في نحو 300 صفحة يستدعي حوارا عالميا حول ضرورة وضع ضوابط أخلاقية وإيمانية لعالم الجينوم، وإلا فإن الخليقة برمتها ستضحى في مهب رياح الفناء لا النماء عما قريب.