من نافلة القول ان ازدهار الفن السينمائي في أية دولة يُعد من أهم مظاهر تحضرها، ولعل إيران واحدة من أعرق دول المنطقة في صناعة السينما، إذ تعود بداياتها الأولى إلى مطلع القرن العشرين، ومع أن عدداً من المخرجين الإيرانيين منذ أواخر التسعينيات يحصدون مراراً جوائز في مسابقات سينمائية دولية، إلا أن مأثرتهم الحقيقية تتجلى في أن الأفلام التي فازوا بجوائز عليها جرى إنتاجها في بيئة طاردة لهذا الفن؛ جراء عدم تبنيهم ثقافة النظام الشمولي الأحادية التي يفرضها على مجتمع برمته متعدد الثقافات، إذ تُقيّم أعمالهم الإبداعية بمنظور الغلو الديني المتحجر، كما يُحظر عليهم توظيفها للنقد الاجتماعي أو السياسي. لذا فإنهم يجترحون معجزة مقاومة الحصار المفروض عليهم بتمكنهم من أن يبزوا مخرجين عالميين توفرت لهم كل سُبل البيئة الصحية لازدهار ودعم صناعة السينما، فلو كان هؤلاء المخرجون الإيرانيون يعيشون في دولة أخرى ديمقراطية غير معادية للفن السينمائي لمنحتهم أرقى الأوسمة وأرفع الجوائز، في حين أن مكافآت النظام لهم تتمثل في تطفيشهم؛ لعدم سيرهم على نهج ثقافته الظلامية، وذلك من خلال وسائل شتى، تبدأ بالرقابة على أعمالهم، ومروراً بمنع أكثرها، فسحب جوازات سفرهم، وانتهاءً باعتقالاتهم وتلفيق تهم واهية لهم، كتهمة "الإخلال بالنظام" أو "الدعاية ضد النظام"، بينما السبب الحقيقي يكمن في مضامين أفلامهم الناقدة للمظاهر السلبية الاجتماعية والسياسية التي يقف خلفها النظام، فضلاً عن أنشطتهم السلمية المناوئة له.
ولعل آخر حلقة في سلسلة اضطهاد المخرجين المبدعين ما جرى مؤخراً من اعتقالات تعسفية بحق ثلاثة منهم في أسبوع واحد، وهم كل من: محمد رسول آف، ومصطفى آل أحمد، وجعفر بناهي. ويتبوأ المخرجان الأول والثالث منزلة سينمائية دولية سامقة، فالمخرج آف نال جائزة "الدب الذهبي" لمهرجان برلين 2020 عن فيلم "لا وجود للشيطان"، وسحبت السلطات جواز سفره للتوجه لاستلامها ثم اعتقلته، أما المخرج بناهي الذي حُكم عليه قبل أيام بالسجن ست سنوات فقد نال جوائز دولية عديدة، من أهمها جائزة "الدب الذهبي" لمهرجان برلين السينمائي في 2015 عن أفضل فيلم "تاكسي طهران"، وفي 2018 فاز فيلمه "ثلاثة وجوه" بأفضل سيناريو في مهرجان "كان". "المقال كاملا في الموقع الإلكتروني".
ومنذ اعتقال أولئك المخرجين الثلاثة تتوالى التنديدات من الجهات السينمائية والحقوقية الدولية، والمطالبة بالإفراج الفوري عنهم، ومن هذه الجهات: مهرجان البندقية الذي يُعد أعرق المهرجانات السينمائية العالمية، ومهرجان برلين السينمائي، وإدارة المهرجان الفرنسي، وغيرها من المؤسسات السينمائية الدولية الأخرى. ومن المؤلم حقاً أنه في الوقت الذي تجري فيه حملة تضامن عالمية مع هؤلاء الفنانين الكبار في بلد مجاور لنا تربطنا به علاقات تاريخية وثقافية، فإن مؤسساتنا ورموزنا السينمائية العربية وجُل مثقفينا وكتّابنا العرب يلوذون بالصمت المطبق، تماماً مثلما تعودوا اللوذ بالصمت عن الانتهاكات التمييزية لحقوق المرأة الإيرانية، ومصادرة حرياتها الشخصية، ومن بينها حقها بعدم فرض الحجاب عليها جبرياً، وهو حق مكفول في كل البلاد العربية.
وإذا كان صمت بعض المؤسسات السينمائية العربية والخليجية والمثقفين والكتّاب العرب قد يكون ناجماً عن لا مبالاة أو سهو، فليس سراً أن صمت أكثرية منهم جاء عن قصد ممالأة - للأسف - لإيران وحزب الله بذريعة أنهما من قوى "الممانعة" لإسرائيل وأميركا، أو تحت تأثير إرهابهما الفكري!.