منذ سنوات قليلة استحدث الإعلامي فؤاد عبد الرازق برنامجاً رائعاً في البي بي سي بعنوان “ذاكرة إذاعة”، ولك أن تقارن من خلال ما يُعرض في هذا البرنامج من نماذج لبرامج هذه الإذاعة العريقة أيام زمان منذ تأسيسها 1938 قبيل الحرب العالمية الثانية، وبين ما آلت إليه برامجها اليوم منذ نهاية التسعينيات أو مطلع الألفية سواء من حيث مستوى الأداء أو المحتوى، واللذان بالكاد يصلان إلى الحد الأدنى المقبول، بعدما كانت في مجدها الغابر تتربع على عرش الإذاعات العربية، إذ تميزت باستقطاب نخبة من أفضل الكفاءات الإعلامية العربية، سيما الفلسطينية، وكانت برامجها الراقية تستحوذ على اهتمام جمهرة عريضة من المستمعين في العالم العربي، وتستضيف نخبة من كبار رواد الفكر والأدب ونجوم الفن في عالمنا العربي، ولم يمنع خطها “الحيادي” المرسوم لها من الإدارة الإنجليزية مذيعيها العرب من تعاطفهم مع قضاياهم القومية، خصوصاً القضية الفلسطينية، وهذا ما عبّرت عنه على سبيل المثال بدقة المذيعة الكبيرة الراحلة مديحة المدفعي: “كانت تمزقنا - كمذيعين عرب - لحظات الصراع الدامي بين المهنة والاحتراف من ناحية والعواطف الثائرة من جهة أخرى”.
وكانت البي بي سي أول من أذاع صباح الخامس من يونيو 1967 أنباء الضربات الجوية الإسرائيلية القاصمة للمطارات الحربية المصرية في ظل تجاهل مطلق في حقيقتها من قِبل المستمعين العرب باعتبارها إذاعة مشبوهة! وتضيف المدفعي: حينذاك كنت أرى زملائي الرجال يمسحون الدموع بيد ويقلبون صفحات النشرة بيد أخرى. وتلفت المدفعي الانتباه إلى حقيقة مهمة لعلها غائبة عن الجميع، وهي أن القسم العربي في البي بي سي كان أسبق في إدخال مذيعات عربيات لقراءة نشرات الأخبار من القسم الإنجليزي بخمسة عشر عاماً. أما زميلها أفطيم قريطم فيروي كيف أنه صاغ خبر تراجع عبد الناصر عن استقالته أواخر حرب 1967، ليذيعه ضمن النشرة أكرم فالح، ثم ليذيعه مرة أخرى على طريقته الخاصة بعد انتهائه من النشرة مطلقاً عواطفه الجياشة من الفرح: “أيها المواطنون في شتى أرجاء الوطن العربي، اسمحوا لي أن أهنئكم وأهنئ نفسي بعودة بطلنا الحبيب جمال عبد الناصر”، ولم يتنبه إلى أن الميكرفون مازال مفتوحا!.