قبل بضعة أيام نشر الرئيس الأميركي جوزيف بايدن صورة له، بنظام تصوير النفس، أو ما يعرف بـ "السلفي"، بجوار أرفف واحد من أكبر المحلات التجارية الأميركية، والمثير في الصورة أن الأرفف فارغة من البضائع، كما أن المتجر الكبير جاء خلوا من العملاء، الأمر الذي يدعو للحيرة حول سبب التقاط تلك الصورة الكئيبة، وهل بايدن أراد أن يؤكد ما أشار إليه من قبل حول الأزمة الغذائية التي باتت تضرب الأسواق الأميركية جراء ارتفاع الأسعار، لاسيما بعد أن جن جنون المحروقات في الداخل الأميركي، وكاد ليتر البنزين يصل إلى خمسة دولارات، وربما تجاوزها في بعض الولايات الغربية مثل كاليفورنيا تحديدا.
مهما يكن من أمر صورة بايدن الأخيرة، فإن واقع الحال يخبر بأن الولايات المتحدة الأميركية دخلت أزمة عميقة، أبعد بكثير من مجرد نقص في سلاسل التوريد، وغياب السلع من الأسواق، أو ارتفاع نسبة التضخم، وأن هذه ما هي إلا علامات تؤكد وجود عطب جسيم في الهيكل البنيوي للبلاد والإدارات في السنوات الأخيرة. تبدو إشكالية أميركا الحقيقية في غياب صورتها الزاهية اللامعة، ومن أفول الحلم الأميركي من أعين العالم، وقد أحب الجميع أميركا حين ظهرت على سطح الأحداث كقوة تحرير وطني، ساعدت العالم الحر الليبرالي في الخلاص من النازية ومد يد العون للقارة الأوروبية عبر مشروع مارشال، ومن ثم مساندة دول العالم في مواجهة المد الشيوعي في كافة أرجاء العالم.
غير أن العقدين الأخيرين على وجه خاص، ظهرت فيهما الولايات المتحدة بصورة مغايرة، لاسيما بعد أن اتبعت هوى المحافظين الجدد، أولئك الذين رسموا في نهاية تسعينات القرن العشرين ما عرف بوثيقة القرن الأميركي، أي التخطيط لأن يكون القرن الحادي والعشرون برمته قرنا أميركيا بامتياز، ما يفيد بوجود مخطط تمددي أو بمعنى أدق توسعي حول العالم.
الوثيقة المشار إليها، تمت بلورتها في العام 2010 عبر ما عرف باستراتيجية الاستدارة نحو آسيا، وآخر تجلياتها حلف أوكوس مع أستراليا وبريطانيا، ثم تحالف كواد مع الهند واليابان وأستراليا، وجميعها تعني شيئا واحدا وهو وقف التقدم الصيني من جانب، وقطع الطريق على روسيا من جانب آخر.
في الأيام الأخيرة يسارع الكونجرس الأميركي في طريق إقرار نحو 40 مليار دولار لأوكرانيا، كما تسعى واشنطن لتعزيز انضمام فنلندا إلى الناتو، وتعزيز روح الاستقلال عند سكان جزيرة تايوان، ما يعني عسكرة أميركية كاملة في الخارج تستدعي إنفاق مليارات الدولارات على التمدد الامبراطوري الخارجي، في الوقت الذي تزداد فيه الطوابير على المتاجر الأميركية بحثا من الأسر عن حليب الأطفال.
يبدو أن الخلل يتسلل إلى الأميركيين، والمواجهات العرقية المتوقعة في انتخابات التجديد النصفي هي أحد أوجه الخلل الداخلي، ويمكن للمرء أن يتوقف عند الأرقام الأخيرة التي سجلتها البلاد وفيها يموت شخص كل خمس دقائق من جرعة مخدرات زائدة، بإجمالي 107 آلاف خلال العام الفائت، وزيادة 15 % عن العام الذي يسبقه.
مم يهرب شباب أميركا وإلى أين يهربون؟
يكاد زيت "المصباح الخاص بالمدينة فوق جبل"، ينفد، والعالم يتساءل ما مصلحة واشنطن في أن تتسع الحرب الروسية الأوكرانية لتصبح مواجهة شاملة مع الناتو تقود لحرب عالمية؟
"لا يمكنك أن تحتل وتنجو ببراعة"، يقول الفيلسوف الفرنسي البلغاري الأصل تزيفتان تيدوروف.