العدد 4905
الأحد 20 مارس 2022
banner
الإمارات والأزمة الأوكرانية.. قراءة واعية للمشهد الدولي
الأحد 20 مارس 2022

يرى الكثير من المراقبين أن امتناع دولة الإمارات العربية المتحدة عن التصويت لمصلحة مشروع القرار الأميركي الألباني، والذي طُرح في مجلس الأمن يمثل تحولاً نوعياً مهماً في النهج الجيوسياسي للدولة، فالمُلاحِظ للسلوك السياسي الإماراتي يدرك أن هذا النهج لم يكن وليد الصدفة، بل سبقته العديد من التطورات التي تراكمت على مدى سنوات مضت، لتترجم تموضع الإمارات بالشكل الذي يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية والإبقاء على علاقات جيدة مع جميع القوى الدولية، وهذا التموضع له أسباب وخلفيات ودوافع يتناولها الباحثون والمتخصصون بالتفصيل والتحليل في أدبيات عديدة، ونشير في هذا الإطار لتحليل مهم نشره والتر راسل ميد، كاتب عمود في صحيفة "وول ستريت جورنال" قال فيه: "لقد كان أداء إدارة أوباما له تداعيات كارثية فيما يتعلق بشبكة التحالفات الأميركية في الشرق الأوسط، فالانسحاب السابق لأوانه من العراق؛ وعدم وضع سياسة بناءة تجاه الربيع العربي؛ والنتائج البائسة للتدخل في ليبيا؛ وسوء التقدير المتعاقب في سوريا، والذي انتهى بوضع روسيا وإيران في مقعد السائق، واندلاع حرب أهلية وحشية وانهيار لبنان، كلها أمورٌ خلفّت انطباعاً متجذراً بعدم كفاءة الولايات المتحدة وعدم جدارتها بالثقة في جميع دول المنطقة. أضف إلى ذلك سعي الرئيس أوباما المحموم للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران قد ضحى بالمصالح الأمنية الأساسية لحلفاء الولايات المتحدة منذ أمد طويل، لتسهيل خروج أميركا من منطقة لم تعد ترغب في الدفاع عنها، ما أدى إلى تعميق الشعور باليأس في جميع أركان المنطقة"، ويرى الكاتب أن "المفاجأة الأوكرانية قد تؤدي إلى إعادة ضبط الوضع في واشنطن، لكن ما نراه للآن هو أن إدارة بايدن تنكر أهمية وقيمة شبكة التحالفات الأميركية في الشرق الأوسط، ولا تدرك خطر إضعاف الروابط مع المنطقة"، وهذا النقاش يعكس إدراك الدوائر الغربية أسباب تراجع قوة التحالف الأميركي مع دول منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، والذي كان بمنزلة ردة فعل لانشغال الولايات المتحدة بشرق آسيا على حساب رصيدها التقليدي في المنطقة.
الموقف الإماراتي تجاه الأزمة الأوكرانية لا ينفصل عما سبقه من تحركات ومواقف إماراتية إقليمياً ودولياً، ولا يمثل في حقيقة الأمر إعادة تموضع أو تغيير للأولويات الاستراتيجية أو تحول نحو الشرق والتخلي عن شراكات الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، ولكنه يجسد تماماً قراءة جيدة وواعية للمشهد الدولي، وما يموج به من تغيرات في موازين القوى، فضلاً عن كونه استمرارا في الإمساك بزمام المبادرة والمبادأة استراتيجياً في التعاطي مع الأزمات والتوترات والتفكير خارج الصندوق في التعاطي معها، وكل ذلك هو في حقيقة الأمر نتاج دراسة متأنية للظروف ومعطيات البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية، بما يحقق مصالح الإمارات ويضمن لها خطوات استباقية في ملفات متحركة.
ثمة نقطة أخرى مهمة وهي قدرة دولة الإمارات على بناء استجابات غير تقليدية للأزمات التقليدية، وذلك لأن الدولة تمتلك من الثقة بالذات والقدرة على التمسك بالثوابت ما يجعلها قادرة على اقتحام المشاكل والأزمات وإجراء الحوارات المباشرة البناءة مع شركائها وأصدقائها ومنافسيها وأيضاً خصومها الاستراتيجيين على حد سواء، فالإمارات التي تقرأ الواقع الاستراتيجي الدولي جيداً وتعي أن العالم يمر بمرحلة انتقالية من النظام العالمي القائم الذي بات يعرف بنظام ما بعد أوكرانيا، وما يعنيه ذلك كله من تجاذبات وتحولات وإعادة للهندسة الجيوسياسية والجيواستراتيجية للدول والمناطق المختلفة، لا تريد الوقوف بانتظار تبلور نتائج التفاعلات الحاصلة على المستوى الدولي، بل تريد أن تسهم بفاعلية في توجيه بوصلة التحولات بما تمتلك من إرادة التحرك الاستباقي سياسياً ودبلوماسياً من أجل تفادي أية تأثيرات وعواقب سلبية لسياسات وقرارات وتوجهات القوى الدولية والإقليمية.
الإمارات تميل دوماً إلى صياغة مقاربات تشاركية، وبناء الجسور وردم الفجوات، وهذا النهج يعكس رؤية الدولة وانتصارها لأي جهد يستهدف ترسيخ الأمن والسلم الدوليين، فهي لا تسعى للجمع بين المتنافسين أو الخصوم الاستراتيجيين كما يتصور البعض، بل تسعى إلى تشارك وشراكات بينها وبين الجميع وفق رؤية تحقق المصالح المشتركة قفزاً على التناقضات والتباينات من خلال تعظيم المشتركات والبناء عليها وإقصاء الاختلافات والحد من تأثيرها، والانفتاح على الجميع، وليس مفاجئاً أن تعتمد الدولة التي تمتلك أهدافا تنموية ذات بعد تنافسي عالمي، تطرق أبواب مصالحها الاستراتيجية أينما كانت أو وجدت، لاسيما أن المسألة لا تتعلق فقط بشق مادي أو مكاسب اقتصادية، بل بشق قيمّي ورغبة صادقة في نشر السلام وترسيخ التسامح والتعايش والانفتاح على الآخر، لذا ليس من باب المنطق أن تُبذل كل هذه الجهود في التقريب بين البشر، والتي تجلت بشكل قوي من خلال "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، في حين تجازف الإمارات وتغامر بكل موروثها واستثمارها الإنساني، حين تنحاز لطرف ضد آخر في صراع دولي يشعر الجميع بالقلق الشديد تجاه عواقبه الكارثية المحتملة.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية