العدد 4873
الأربعاء 16 فبراير 2022
banner
عن أوروبا القارة الحائرة
الأربعاء 16 فبراير 2022

تبدو القارة الأوروبية في الوقت الراهن حائرة، بل ومشدودة بين حبلين، أحدهما شرقا جهة الامتداد الجغرافي الآسيوي، والثاني غربا ناحية الولايات المتحدة الأميركية، ذلك الحليف الاستراتيجي الذي استنقذها ذات مرة من طغيان النازية والفاشية ومعهما الامبراطورية اليابانية في النصف الأول من القرن العشرين. هل أوروبا حائرة بالفعل؟
يبدو أن ذلك كذلك، بل أكثر من حالة الحيرة، تبدو منقسمة على ذاتها، ولا نغالي إن قلنا إن الاتحاد الذي جمع الأوروبيين قبل ثلاثة عقود، قد تلقى ضربة قوية بخروج بريطانيا منه، وقد فقد بذلك قوة معنوية ومادية أوروبية تاريخية. تبدو أوروبا وكأنها ارتكنت كثيرا وطويلا على الولايات المتحدة الأميركية، لهذا فإن قدرتها على المبادرات الجوهرية والاستراتيجية قد ضعفت بشكل واضح، وهذا ما نشاهده اليوم في مواقفها المتباينة من الأزمة الأوكرانية، ويمكن للمحلل السياسي المحقق والمدقق أن يكتشف على سبيل المثال لا الحصر، البون الشاسع في السياسات ما بين بريطانيا من جهة، وفرنسا وألمانيا من جهة ثانية. 
بريطانيا تاريخيا هي المكافئ الموضوعي للتماهي الكامل والشامل مع السياسات الأميركية، خصوصا إذا كانت موجهة لروسيا الاتحادية أو الصين، وعليه لم يكن مثيرا أو غريبا أن تبادر بريطانيا بإرسال بضع مئات من قواتها الخاصة إلى أوكرانيا، عطفا على شحنات أسلحة نوعية تستهدف المدرعات الروسية، تحسبا لعبورها إلى الجانب الأوكراني، وعلى الضد منها نرى السياسات الفرنسية تحاول لملمة أبعاد الأزمة، ما تمثل في زيارة الرئيس ماكرون مؤخرا إلى روسيا، ولقاء الطاولة الطويلة مع القيصر بوتين، وفي كل الأحوال لم تكن تصريحات فرنسا هجومية ولا شقاقية، بل حاولت قدر ما يمكنها أن تهدئ من روع الروس. والشاهد أن الدولة الأوروبية التي يمكن القول إنها الأقرب إلى روسيا عقلا ونقلا، هي ألمانيا، ذلك أن الألمان يعرفون أول الأمر فداحة وكارثية الحرب، ثم إن هناك رابطا اقتصاديا مهما يربطهما ألا وهو خط الغاز الشمالي الشهير "نورق ستريم 2".
على أن هناك ما هو أبعد من ذلك، وهو الرؤية الألمانية للطرح الأوراسي، أي فكرة التعاون الجغرافي والديموغرافي بين أوروبا وآسيا، من عند المحيط الأطلسي وصولا إلى جبال الأورال، تلك الفكرة التي طرحها في ستينات القرن الماضي الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديغول، لهذا لم يكن الرجل صديقا أو حليفا بامتياز للولايات المتحدة الأميركية، لهذا السبب كذلك احتفظ لفرنسا بحق إدارة سلاحها النووي، وبعيدا عن توجهات قيادة الناتو، قبل أن يتغير المشهد لاحقا. 
وفي مشهد الأزمة الأوكرانية يمكن للمرء التنبه إلى أمر مهم، وهو أنه كلما شعرت أوروبا بخوف أكثر من روسيا، كلما اعتبر الأميركيون أن الأمر يمثل نصرا مؤزرا لهم.. لماذا؟
في الأعوام القليلة الماضية ارتفعت أصوات داخل أوروبا تكاد تطالب وعلى استحياء بالانسلاخ من عضوية الناتو، لا بل والدعوة إلى قيام جيش أوروبي موحد جديد كما نادى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. 
من هنا فإن التهديدات الروسية تجعل الأوروبيين أقرب ما يكونون إلى الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى، وتفويت الفرصة على دعاة الانعزال عن الولايات المتحدة. 
وفي كل الأحوال جاءت أزمة أوكرانيا كاشفة لأوروبا عن تهافت أوضاعها ما يدعوها لترتيب أوراقها مرة أخرى غداة انتهاء الأزمة. 
أين سترسو سفينة أوروبا؟ تساؤل لا يزال معلقا في رحم الغيب.

 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية