+A
A-

بروين حبيب: الغربة هي أن أعمل من دون حب وأن أكتب عن شيء لا يجذبني وألا تكون نفسك!

خرجت من المنامة تحمل في حقيبتها الصغيرة حب التعلم واللغة، كبرت لتصبح فراشة تحلق في السماوات السبع بين بحر وقصيدة، سحر حتشبسوت دفعها لسفرها الأول إلى مصر حيث كانت البداية، أما انطلاقتها فكانت حين حطت رحالها في دبي، عشرون عاما وأكثر ولا تزال الفراشة تسافر بين العالم علها تجد ضالتها، بروين حبيب ولقاء حصري لمسافات البلاد الجزء 2:

بعد خمسمئة لقاء ويزيدون هل تخرجت أخيرًا من مدرسة الحياة؟ وما الدرجة التي تقلدتها منها؟

لم أتخرج بعد، ومازلت طالبة زادها الشغف شغفا، وهي جامعتي الأولى والثانية والثالثة، ضيوفي تعلمت منهم وأضافوا لي فكرة أو معلومة. هناك حوارات أفضت بي إلى كتب، وشخصيات تركت بصمتها فيَّ كالكاتب خيري منصور عميد المقال العربي، ومقولاته لا تزال معي إلى الآن. أنا لدي كتاب أفرغت فيه حواراتي خارج مكان التّسجيل معهم، الكلمات والنّصائح والمقولات. أعتقد أنّ الضيوف ليسوا فقط في الحوارات، هم البشر خلف الكواليس أيضًا. واستقبلتهم في بيتي بيت الثقافة؛ لأنهم أصبحوا أصدقائي خارج مكان التسجيل. 

لقاء رسخ في الذاكرة وكلمة غيرت مجرى حياتك، فما هما؟

توجد أجزاء من لقاءات أثرت فيَّ وليس واحدًا، مثلًا الشاعر حلمي سالم المصري حينما قابلته وتكلمنا في المقدمة، فتأثر هو بها، وبعد الحوار دار بيننا حوار خارج الهواء عن أمر شخصي، والكاتب الليبي سالم العوكلي وكيف تحدثنا عن فترة سجنه في درنا، وكان يتحدث عن زوجته وعن ابتسامتها التي تشبه ابتسامة جوليا روبرتس. تأثرت بكلام خيري منصور عندما كنت أمر بحالة نفسية سيئة، وقال لي ذات مرة: "بروين، عيشي حياتك كلها كل لحظة منها، إن مت غدًا هذا المقهى سيقدم لزبائنه القهوة وهذه الشجرة ستبقى، ولن يهتمّ أحد من هذا العالم بغيابك بقدر ما تهابين حضوره اليوم". أتذكر كلمات محمود درويش حين قال: "التلفاز كالوحش الجائع المفترس يلتهم، اخلصي للشعر والكتابة والثقافة". توجد نساء أثرن في أيضا كالكاتبة الكويتيّة ليلى العثمان عندما انتهينا من الحوار سألتني: هل أنت متزوجة؟ فأجبتها بالنفي، فقالت: لابد أن تتزوجي وتصبحي أما. توجد إشراقات في الضيوف تبين مدى دفئهم، هناك من ترك معلومة أو سؤالا، وهناك من جعلني أسأل وأبحث وأفتح الكتب.

لماذا تخافين العبور الهادئ؟

لأنني شخص إيقاعي وسريع، أقول دائمًا: لابد من جعل أحدهم يجلس على كرسي الحوار الثقافي من أبناء البلد، وأحب أن أرى الإماراتي يعمل في الحوار الثقافي؛ لأني لا أحب أن أشعر بأني برتقالة تعصر وترمى، فلابد أن أترك أثرا بعد عبوري هذا المكان، لابد أن أعبر بأثر، وأردد دائمًا: نحن كائنات نمرِّر الخير والجمال والثقافة. سخرنا الله لنمرر ونعبر، ولكن ليس بهدوء الأثر، بل بضوضائه. 

ما إرثك الحقيقي؟

أن أكتب تجربتي بصدق، وإن شاء الله أستطيع أن أكتبها، ربما من خلالها أستطيع أن أضيف أو أؤثر أو أغير مجرى حياة فتاة كانت تعاني يومًا من ظروف معينة، وأن أشكل لها -من خلالها- بصيص أمل. الإرث الحقيقي هو الأثر الإنساني، أن أفتتح قناة أتكلّم فيها دون "رتوش". أن يراني العالم المحاورة المتميزة والدكتورة الأكاديمية. عندما فزت بجائزة المرأة الديناميكية من جامعة جورج واشنطن في أمريكا كانت عن قصة حياتي كتبتها في ألف وخمسمئة كلمة، هي سير نساء مضيئات، وقد أخذتها عن فئة كسر الحواجز.

ما الذي حدث في جائزة البوكر وما شعور الغصة الذي سبق الفرح؟

كنت عضوًا في لجنة التحكيم بها. يوجد خلل -دائمًا- في تقبل فكرة الإعلام وبين الثقافة، فالصورة النمطيّة عند الناس أنّ الإعلامي أقل شأنًا من المثقف دون النظر عن سيرة هذا الإعلامي. توجد مصادرة لإعطاء فرصة للإعلامي، فمن الممكن أن تكون لديه موهبة الكتابة أو تخصص معين. الإعلامي هو الكائن الذي لديه خفة في شخصيته. أما المثقف ينظر للإعلامي -دائمًا- أنه شخص خفيف، والإعلامي ينظر للمثقف على أنه شخص ثقيل ومادته صعبة الهضم. الأول يخدم الكاتب عندما يسلط الضوء على كتاباته وإنجازاته. فالعالم يراني بصور الإعلامية والشاعرة، ولكن لا أحد يعلم أني درست النقد الأدبي، وأعددت أبحاثًا في هذا المجال، وأني أكتب مقالًا أسبوعيًّا عن الرواية والفيلم والأجناس الأدبية والأفكار الفلسفية. إذن لماذا فلانة تكون في لجنة تحكيم؟ وهي لم تكن غصة عميقة، فهي كانت متوقعة حقيقية، توقعت أن يقال لماذا؟ كما قالوا ذات مرة: لماذا مريد البرغوثي الشاعر الكبير رئيس لجنتنا؟ شعرت بالاستياء؛ لأنهم تركوا الجائزة والتحكيم واهتموا بانضمامي كأحد المحكمين. في دول أخرى البواب وصاحب المكتبة والراقصة عندما يقرأون من الممكن أن يكونوا في لجنة تحكيم، فليس من الضرورة أن يكون المرء أكاديميًّا أو متخصصا. التقيت بوابا سودانيا قرأ كل روايات البوكر في أبوظبي ولديه رأي فيهن، والتقيت أيضًا حارس بيت كفافيس بالإسكندرية، وكان حافظًا لكل ترجماته، فلا نستخف بالقراء أو الناقد أو الأكاديمي.

هل لا يزال الإعلام اليوم ينتج الدمى؟ أم إنه توقف وأصبح ينتج العقول والأفكار؟

سيظل الإعلام يفرز الدمى وللأسف سيظل بعض الموهوبين والمجتهدين من أمثالك في محاولة للنقش في الحجر لترك بصمتهم. سيظل ينتجها لأن كل العالم الآن ينتج الدمى خاصة اليوم، ونحن نعيش في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الذي من خلاله أصبح العالم كله فرجة، ونحن نعيش في عالم الفرجة كما قال رولان بارت: مليء بالمسارح والمظاهر الباذخة المزعجة. أقول يوجد لدينا مشاهير ويوجد لدينا مشاهير مزيفون. فكرة الدمى ليست موجودة فقط في الإعلام إنما في الحياة بشكل عام، انسحبنا إلى لعبة الدمية وأصبحنا ننتج نماذج صاروا مع الأسف مؤثرين وأيقونات يحركون الشارع ويؤثرون على الأجيال. 

هل تؤمنين بوجود مساحة مشتركة تجمع الإعلاميين والمثقفين؟

دائمًا هناك مساحة مشتركة بينهم، ويوجد إعلاميون حقيقيون لديهم مشاريعهم الخاصة، مثلًا لدي هم تلفزة الثّقافة، وغيري لديه السياسة والرياضة والفنون والمنوعات، دائما إذا كان يوجد مشروع لدى الإعلامي إذن توجد مساحة يتقاسم ويتقاطع معها المثقف؛ لأن الثقافة تجاوزت فنون الكتابة، فهي ليست الكتب، والشعر، والرواية، والمسرحية، الثقافة اليوم تشمل فنونا كثيرة، ونحن اليوم نعيش حسب وصف أحد فلاسفة أوروبا "نحن نعيش مرحلة ملحمة العين".

متى سيؤمن أصحاب الأقنعة بأهمية الثقافة وأنها إرث حضاري وإعلامي للعالم العربي؟

بعد صراع مرير- نضحك- إن خيار الثقافة خيار قاسٍ سواء كان في التلفاز أو في الصحافة أو في كل مكان، لاحظي كيف أصبحت تتقلص لصالح الإعلانات، أمَّا موت أديب، فيمر بشكل عادي، بينما اعتزال نجم رياضي يهز العالم. أصبحنا أسارى لنسب المشاهدة، والجمهور يريد ذلك. بعد هذه الرحلة الطويلة لست متفائلةً كثيرًا، ولكن توجد إشراقات ونوافذ ضوء، ولكنها صغيرة وقليلة، يوجد الكثير من المحاربين في هذه الجبهات. 
نحن نحتاج إلى الكثير من الحصص التلفازية التي من الممكن أن تشغل مساحاتنا على الخرائط البرامجيَّة، البرامج الثقافية أصبحت في ذيل الاهتمامات الفضائية. سنة ثمان وتسعين بعد الألف كان يوجد اجتماع بجامعة الدول العربية في تونس، وكان من أهم مخرجاتها توصياتها إنشاء قناة ثقافية عربيَّة، أين ذهب هذا الحلم؟ توجد قنوات كالنيل الثقافية وغيرها، ولكن تشعرين بأنها تقليدية في الشكل، طاولة مستديرة أو شكل المحاكمة وغيرها، أعتقد أننا إلى الآن لم نقدم ثقافتنا بصورة صحيحة.

ماذا أنتج الإعلام الجديد اليوم من أدب جديد؟

أنا مؤمنة بفكرة توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لصالح الأدب والثقافة، يقال إن برنامج "الإنستغرام" للصورة أكثر من الكتابة، ولكني أحببت توظيفه للكتابة، وأصدرت كتابًا أسميته "انستغرامياتي". توظيف هذا المنبر الافتراضي لصالح الثقافة من خلال وضع اقتباس جميل أو التلميح لكتاب ما أو تلخيص مقال معين وتسليط الضوء على شخصيّة ما من الحياة. لذلك أشعر أن هذه القنوات أنزلت اللغة من عوالم وسماوات المجاز وأرستقراطيتها والأدب بنزعته العالية إلى تفاصيل حياتنا المعيشية واليومية، صرنا نكتب بشكل مكثف وسريع وأصبحنا نكتب الهايكو الياباني، ويوجد من استفاد من هذه القنوات. يوجد شاعر اسمه محمد زكريَّا كتب ديوانًا كاملًا اسمه "كشتبان" على منصة "الفيسبوك" ثم قام بتقديمه ككتاب، إذن يوجد نوع من الأدب ظهر، له سلبياته بالتأكيد وهي الأخطاء اللغوية التي أصبحت مفتوحة دون حسيب أو رقيب. آمن الكاتب رولان بارت بموت المؤلف ثمَّ جاء بعده مَن آمن بموت النَّاقد، ونحن اليوم نعيش هذا الموت. فهل يوجد من يحاسب النَّاس على ما يكتبون أو ينتهكون من حقوق الملكيَّة الفكريَّة؟ 

الغربة

كيف كانت الرِّحلة؟ 

مازالت الرحلة مستمرة، وأنا دومًا أبحث عن مواصلتها، والبحث يعني سؤال نفسي: أين تجدين نفسك كاتبةً أم إعلاميَّةً؟ الكاتبة أم الإعلامية أم الشاعرة، وأقول: أنا مازلت أبحث عن نفسي في كل الأشكال والصّور. ولكني مؤمنة بأن أروي شغفي تجاه التجربة في كل ما صنعته، بدأ الشَّغف من ممثلة صغيرة وصولًا إلى تأسيس رابطة أثر للثقافة والفنون. في كل الأشياء أنا أجرب وأبحث عن نفسي وأستنهض، ربَّما بعض المواهب أو الشَّوق تجاه إيجاد شكل جديد. أما الرحلة إن كنتِ تقصدين رحلتي إلى دبي، والتي كان فيها العقد لسنة واحدة ثم أصبح اثنين وعشرين سنة، هي كانت مصادفة، لكنَّ الله كريم كثيرًا معي، فهي جاءت دون تخطيط؛ لأني كائن غير مخطِّط، لا أتقن التَّخطيط، بل أسعى وأجتهد. الرِّحلة كانت جميلة، كان فيها الكثير من المغامرات والأبواب والفرص الضَّائعة، ب مختلفة. وهذا هو السر الغني الذي اكتسبته منها، وكان السر في صالح مهنتي ونفسي وإنسانيتي.

كان عامًا واحدًا ثم أصبح اثنين وعشرين عامًا، ما الذي اختلف؟ وما الذي لا يزال موجودًا في تلك الفتاة؟

يوجد الكثير من تلك الفتاة، الوعي والنضج وكيفية التعاطي مع الأشياء، فعندما تخرجين من بيئة أو مناخ معين يكاد يكون محدودًا وضيقا لا تختبرين من خلاله حواسك ونفسك، ولكن عندما تنفتحين على العالم الخارجي وكأنك في مدينة مليئة بالقطارات، يوجد الصاعد والنازل؛ لأنها مدينة تجارية مفتوحة، فهذا الإيقاع للمدينة لامسني وعشت فيه. اختبرت نفسي مع الأشياء واختبرتها أيضًا في التَّعامل معها. الغربة التي عشتها أثناء دراستي في القاهرة مختلفة عن التي عشتها في دبي. ولو أني لا أؤمن كثيرًا بفكرة الغربة، فأنا أقف أمام ثلاثة مفاهيم لها وللوطن، فأنا أردد دائمًا مقولة ألبير كامو: "إن الإنسان لا ينتمي إلا إلى ظله، هو في داخله يحمل الوطن، جذوره بداخله"، وفي الأخير عندما يكون الإنسان في مواجهة مع الأشياء في الحياة يقول: أنا أنتمي لنفسي؛ لأن الحياة ليست عادلة، وتكاد تكون ظالمة من البداية، وليست كل الأشياء في أماكنها الصَّحيحة. تغيرت الكثير من المفاهيم لدي، منها نظرتي للتلفاز، ووظيفتي، وصورتي على الشاشة، وتخصّصي وفن تقديم الحوار التلفزي. البحرين كانت البدايات، والتكوين والروافد الأولى، والنبع الأول، ومسقط الرأس، ودبي هي مسقط النجاحات والرحلة الإعلامية والتحقق ومسقط الرُّوح.

ألمْ يحن الوقت للعودة بعد كل هذه القصص والحكايات؟

لا نعلم ما الذي يخبئه لنا الغد، وأعتقد أن هذه القرارات تأخذنا لها الأقدر. هنالك أقدار صغيرة مثل أن أسافر وأدرس وأنجح وأتحقق، وأنت تعدين لي هذه المقابلة ونلتقي الآن كلها أقدار، نحن نسعى لها ونحققها، ولكن القدر الكبير أن الله هو الذي يخبئه لنا، أنا مؤمنة بذلك. في زوايا الكون أقدار وأمكنة نستقر فيها ولو أني أيضا ضد فكرة الاستقرار، بمعنى أن أعيش في مدينتي، أو أن أعيش في البحرين غير مقبولة؛ لأني امرأة محبة للسَّفر مثلًا أنا في رمضان هذا العام عشت نصفه في القاهرة والنصف الأخر كان بين دبي والبحرين، أنا أحب أن أعيش في المدن، أما فكرة أن أعيش في مدينة واحدة وأسلم نفسي لها، فلا.

ما الغربة وأين تكمن؟

الغربة هي أن أعمل من دون حب، أو اضطر إلى تقديم برنامج لا يشبهني، فقط لأنني موظفة، وهي أن أكتب مقالًا عن شيء لا يجذبني أو عن فيلم لا أحبه، وأن أجبر على الجلوس مع مجموعة من البشر بحكم الصلة والقرابة والأرحام ولا مشتركات بيننا. وهي أن أكون بين أصدقاء وصديقات بيني وبينهم تاريخ وذاكرة، لكننا أصبحنا مختلفين في الوعي والأيدولوجية، الغربة ألا تكون نفسك وتضطر أن تكون شخصًا آخر وهذا بالنسبة لي صعب جدا؛ لأني أحب أن أكون نفسي في كل مكان.