العدد 4471
الأحد 10 يناير 2021
banner
السلام الإبراهيمي... إبراهيمنا وإبراهيمهم
الأحد 10 يناير 2021

مضت أربعة أشهر تقريبًا منذ توقيع  “اتفاقات أبراهام” التاريخية، التي شملت معاهدة سلام بين الإمارات وإسرائيل، و”إعلان تأييد السلام” بين الأخيرة والبحرين، وأصبحت بذلك الإمارات والبحرين ثالث ورابع دولتين عربيتين تطبعان علاقاتهما مع إسرائيل، بعد اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، ومع الأردن عام 1994.

وفي حفل توقيع الاتفاقات، أوجز وزير خارجية البحرين عبداللطيف بن راشد الزياني الدوافع التي أدت إلى توقيعها معتبرًا أن “الشرق الأوسط عانى طويلاً من الصراعات ما تسبّب بالدمار وعاق إمكانات أجيال من أفضل شبابنا”، مضيفاً أن الفرصة أصبحت سانحة لتغيير ذلك، مؤكدًا أن حل الدولتين سيكون حجر الأساس للسلام في المنطقة.

وقد جاءت تلك الاتفاقات لتعكس واقعًا وقناعات جديدة ناتجة عن تجارب مريرة قاسى منها أطراف الصراع كافة في المنطقة، وخصوصًا الشعب الفلسطيني، ولتمثل أيضًا انعطافًا وتحولاً استراتيجياً لا رجعة عنه في منطقة الشرق الأوسط، غَيَّر قواعد اللعبة وفلسفة الصراع فيها، وأعاد تموضع أطرافه، بعد أن جعل منظومة العلاقات فيما بينهم تمتد إلى جذور تاريخية، وترتكز على القيم الروحية المشتركة للأديان السماوية الثلاثة الكبرى؛ اليهودية والمسيحية والإسلام.

وما دمنا قد قبلنا بوضع عملية السلام على قاعدة الإيمان المشترك الذي أرساه سيدنا وجدنا المشترك النبي إبراهيم عليه السلام، وجعلنا من ذلك الإيمان مرجعيتنا،  فإن الكثير من الدلالات والإسقاطات لهذه التسمية تصبح واردة أو محتملة، ويجب أخذها بعين الاعتبار، أهمها إدراك الفرق بين نظرة المسلمين ونظرة اليهود لمكانة سيدنا إبراهيم وتقواه وما يمثله من قيم وقناعات وسلوكيات.

وينسب اليهود والمسلمون أنفسهم إلى إبراهيم ويعتبرونه جدهم الأكبر المشترك، إذ يؤمن اليهود بأن إبراهيم هو أبو بني إسرائيل من ابنه إسحاق، ويؤمن المسلمون بأن محمدا من نسل ابنه الآخر إسماعيل، إلا أن المسيحيين لا يستطيعون أن يدعوا النسب أو القرابة ذاتها، فلا يمكن أن يكون عيسى المسيح من نسل إبراهيم وهو بالنسبة للمسيحيين إله ليس له أب.

ولا شك في أن للنبي إبراهيم منزلة ومكانة مرموقة من الاحترام والتقدير والتبجيل في الأديان السماوية الثلاثة، وأن اليهود يؤمنون بأنه هو الأب المؤسس لهم كدين وكأمة، وقد كانت له علاقة خاصة بالله انعكست على علاقتهم به مما أهلهم لأن يكونوا “شعب الله المختار” حسب اعتقادهم، إلا أن إبراهيم، بالنسبة إلى المسلمين، يتمتع بحفاوة أعمق، ويتبوأ مكانة أكرم وأرفع مقارنة بمكانته عند اليهود، فقد ذكر في القرآن الكريم في 69 موضعًا، بينما ذكر نبينا الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، خمس مرات فقط.

كما يعتبر المسلمون النبي إبراهيم أقرب الأنبياء إلى نبيهم، وخصوه بصلاة تُعرف بـ “الصلاة الإبراهيمية” عندما يقولون “اللهم صلي على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم”.

ويغدق الإسلام على إبراهيم صفات وألقاب لا يغدقها على نبينا الأكرم، ويرفعه إلى مكانة “أبو الرسل والأنبياء” الذي “جعلنا في ذريته النبوة والكتاب”، وهو أحد الأنبياء والرسل الخمسة الذين يوصفون بـ “أولي العزم” لجَلدهم وتقواهم وصبرهم؛ كما جاء في القرآن الكريم: “فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل”.

ويؤمن المسلمون بأن إبراهيم جمع في نفسه كل الصفات النبوية والإنسانية الحميدة، واعتبروه “أُمَّة” حيث يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: “إن إبراهيم كان أمَّة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين”.

وهو بالنسبة للمسلمين “خليل الله”؛ والخليل هو الصديق، أي أن له مكانة خاصة عند الله، بينما ارتكزت عند المسلمين مكانة النبي محمد أمام الله لكونه عبدًا صالحًا له، أحبه واصطفاه لرسالته.

ويؤمن المسلمون بأن إبراهيم هو من أعاد بناء الكعبة المشرفة مع ابنه إسماعيل، وقال تعالى: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ”، ويقع حتى الآن “مقام إبراهيم” بجانب الكعبة وهو الحجر الذي قام إبراهيم من عليه بالأذان والنداء للحج بين الناس.

وينظر المسلمون إلى إبراهيم على أنه الرائد والمؤسس للإسلام، امتثالًا لقوله سبحانه وتعالى: “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.

وقد انفرد الإسلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث بقصة قيام إبراهيم بتكسير الأصنام التي كان قومه يعبدونها، ما أغضبهم، فأعدوا له نارًا عظيمة ألقوه فيها لحرقه والتخلص منه، ولكن الله أنجاه منها: “قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ”.

والذين يؤمنون بـ “عصمة الأنبياء” من المسلمين فإنهم يضفونها بكل فيض على النبي إبراهيم أيضًا، إلا أن اليهود في المقابل لا يؤمنون بمبدأ عصمة الأنبياء والرسل أو أنهم منزهون من ارتكاب الكبائر والصغائر، بل إنهم نسبوا، في صلب أقدس كتبهم وهو التوراة، إلى جدهم إبراهيم وأبو أنبيائهم، أفعالًا وصفات ذميمة لا تتفق أو تليق أو تتلاءم مع مقام النبوة والصدق والتقوى، منها أنهم جعلوا الصِّلة التي تربط بين إبراهيم وربِّه من جهة وبينه وبين سائر الناس من جهة أخرى قائمة على المنافع الدنيويَّة، كما تَذهب إلى ذلك أسفارهم.

ويعتقد المسلمون بأن التوراة التي يقدسها اليهود قد تم تحريفها، ففي حين إنها تتضمن دون شك الكثير من القيم والمبادئ السامية والوصايا الأخلاقية والإنسانية الفاضلة، إلا أنها تحتوي أيضًا على قصص ومواقف تنطوي على أوجه وحالات واضحة من الأنانية والانحلال الأخلاقي والزنا وفساد المحارم والخيانات التي يبدو أن انبياء وشخصيات مقدسة قد اقترفتها، وأن الله قد قبلها، والعياذ بالله، فها هو النبي إبراهيم، يكذب والعياذ بالله أيضًا، وسمح لغيره بمضاجعة زوجته سارة مرتين؛ الأولى عندما توجه إلى مصر وادعى أن زوجته سارة هي أخته، ووافق على أن تصبح زوجة للفرعون، لقاء حصوله على المال كما جاء في التوراة، سفر التكوين، الإصحاح الثاني عشر: “13 قولي إنك أختي، ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك، 14 فحدث لما دخل إبراهيم إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدًا، 15 ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأُخذت المرأة إلى بيت فرعون، 16 فصنع إلى إبراهيم خيرًا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال، 17 فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب سارة امرأة إبراهيم، 18 فدعا فرعون إبراهيم وقال: ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟، 19 لماذا قلت: هي أختي، حتى أخذتها لي لتكون زوجتي؟ والآن هوذا امرأتك خذها واذهب”.

والمرة الثانية تخلى عنها لـ “أبيمالك” ملك جَرار، كما وردت في الإصحاح العشرين من سفر التكوين: 2 وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة. 3 فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل، 4 ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب منها، فقال: يا سيد أَأُمَّةٌ بارَّةً تَقْتُلُ؟ 5 ألم يقل هو لي: إنها أختي، وهي أيضًا نفسها قالت هو أخي؟”.

والتوراة تخبرنا أيضًا بأن نزاعًا وخلافًا نشبا بين اثنين من أنبياء الله الصالحين؛ النبي إبراهيم نفسه، وابن أخيه النبي لوط حول مسائل وأمور مادية متعلقة بالمراعي وحقوق الرعي ما أدى إلى افتراقهما.

وما دمنا قد ذكرنا نبي الله لوط، ابن أخ جدنا النبي إبراهيم، فمن أراد أن يعرف العلاقة التي ربطته بابنتيه حسب السرد التوراتي، فما عليه إلا الرجوع إلى الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.

وكما رأينا فإن ثمة فروقات هائلة في منظومة القيم والسلوكيات التي مارسها جدنا المشترك النبي إبراهيم، وتناقضات حادة وواضحة بين ما جاء في القرآن الكريم وما جاء في التوراة المقدسة؛ بحيث يصبح مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار أمرًا ضروريًا وملحًا عند رسم خارطة علاقاتنا الجديدة مع إسرائيل التي وضعت في القالب الإبراهيمي عند إبرام اتفاقات التطبيع.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية