انتعشت “نظرية المؤامرة” وعلى مستوى عالمي، في الفترة الأخيرة، على أثر ظهور جائحة كورونا وانتشارها، ثم أخذت أبعادًا أعمق وأوسع بعد اكتشاف اللقاحات المضادة لها، وتقع نظرية المؤامرة المرتبطة بجائحة كورونا ضمن تصنيف “العدو الأعلى” من النظرية؛ وهو تصنيف يفترض وجود جهات نافذة أو أشخاص أقوياء يتلاعبون بالأحداث من أجل مكاسبهم الخاصة.
والأخطر من ذلك انها تقع أيضًا ضمن تصنيف “المؤامرة العميقة المنظمة” التي يتصور منظروها ومريدوها والمؤمنون بها أن هدفها الأساسي، في الحالة التي نحن بصددها، هو إحكام السيطرة على العالم بأسره، وتتمدد مخيلة هؤلاء المنظرون إلى تصور أن المُنَفذ لهذه المؤامرة والواقف وراءها جماعة أو منظمة سرية شريرة تسعى أولًا إلى تدمير المؤسسات القائمة، وتقليص أعداد الجنس البشري، عن طريق تصنيع وإطلاق فيروس كورونا الذي سيفتك بأكبر عدد ممكن من البشر، ومن ثم تصنيع وبيع اللقاحات والمضادات الواقية من الفيروس ذاته، وحقنها في أجسام من تبقى من البشر، بحيث تتضمن المادة المحقونة على صفائح ذكية في غاية الضآلة والدقة، تبقى في جسم الإنسان، ويتم من خلالها متابعة ورصد تحركات وتصرفات الشخص المحقون والتحكم فيه، وبذلك تتحقق السيطرة التامة على البشر جسديًا وعقليًا بما يؤدي إلي السيطرة على العالم بأسره.
و”نظرية المؤامرة” تختلف عن “المؤامرة” كمصطلح ومفهوم؛ فالمؤامرة هي أحد عناصر الصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر، وهي عبارة عن تصرف قائم لا يمكن إنكار وجوده، يمارسه البشر ربما منذ عهد قابيل وهابيل.
والمؤامرة تُعرَّف على إنها عمل سري يُخطَط له في الخفاء، وهي جريمة أو ممارسة سيئة ضارة وغير قانونية، كما أنها تعتمد على التضليل وإخفاء الحقيقة وبث الإشاعات والأكاذيب بشكل منظم، وتهدف غالبًا إلى إحداث ضرر، أو تحقيق مصلحةٍ ما، أو السيطرة على جهة أو مجتمع ما.
وحيث إن مفهوم المؤامرة يترادف مع الكيد والمكر، فإن القرآن الكريم قد أشار وأقر بوجود هذه المفاهيم والممارسات، بل إنه كان صريحًا في سورة القصص عندما ذكر التآمر بكل وضوح في إشارة إلى أن أعداء النبي موسى تآمروا على قتله؛ إذ قال سبحانه وتعالى: “إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ”.
أما “نظرية المؤامرة”، أو عقدة المؤامرة، فهي نتاج فكر اسطوري يرى خلف كل ظاهرة أو فعل إنساني يؤثر عليه سلبًا فاعلًا أو متآمرًا خبيثًا قادرًا على كل شيء. ونظرية المؤامرة هي أيضًا الاعتقاد والإيمان بأن هناك جهة بشرية مركزية في هذا الكون هي التي تتحكم في مجرى الأحداث في أرجاء المعمورة كافة، وتسيطر على الاقتصاد العالمي، وهي وراء نشوب الحروب وحدوث الهزائم أو الانتصارات، وقيام الثورات والإطاحة بالأنظمة، ولا يمكن لأحد أن يخرج عن سيطرتها.
ونظرية المؤامرة هي في الحقيقة تلك الحالة التي تنتج عن الفشل في مواجهة التحديات أو العجز عن فهم وتفسير الظواهر والأحداث التي تلم بنا، فنلجأ إلى إرجاعها إلى وجود قوى شريرة تتحكم في العالم، وتعمل في الخفاء على تدميرنا، وهي بذلك تصبح كالشماعة التي نعلق عليها أخطاءنا وإخفاقاتنا.
وترتكز نظرية المؤامرة، كما رأينا، على تهم وادعاءات غير معززة بالأدلة، وعلى افتراضات تتناقض في الكثير من الأحيان مع الأسس المنطقية والواقعية والعلمية والتاريخية.
وفي الغالب يتم تصور وجود المؤامرة أو تخيلها أو غرسها في الحس المجتمعي نتيجة للخوف والقلق من عدم وضوح الرؤية، أو تبريرًا للعجز وعدم المقدرة على مواجهة التحديات، ونظرية المؤامرة ترتكز في معظم الأحيان على الشك أو القناعة أو الإيمان بدلًا من الأدلة والبراهين، وبالنسبة للضعفاء والبسطاء من الناس فإن نظرية المؤامرة تصبح الملاذ المفضل أو الأخير.
و”نظرية المؤامرة” ليست صناعة عربية كما يدعي أو كما يظن البعض، فقد بدأت تتبلور بشكل واضح في أوروبا في القرن التاسع عشر بعد أن اشتدت كراهية المسيحيين الأوروبيين لليهود المقيمين في أوروبا، وأخذوا يتهمونهم ويحملونهم المسؤولية عن كل ما يحدث لهم وما يلم بهم من مصائب ونكبات وكوارث.
إلا أننا، نحن العرب، أصبحت لنا علاقة حميمة بامتياز، وقصة طويلة مع نظرية المؤامرة التي تتألق وتنتصر بين الشعوب المهزومة والمأزومة والمحبطة التي تشعر بأنها فشلت واخفقت ولم تتمكن من تحقيق تطلعاتها، فكما ذكرنا في البداية فإن حياكة المؤامرات ربما كان قد بدأ مع بداية الخليقة، وأن تنظيرها والإيمان بنظرياتها قد بدأ منذ قرنين تقريبًا، إلا أن المجتمعات المتطورة أخذت وتمكنت، إلى حد وبقدر كبيرين، من تخطيها والتخلص منها بعد أن فرضت العلوم والمعارف وجودها في تلك المجتمعات، في الوقت نفسه فإن نظرية المؤامرة، وبقدر كبير أيضًا، ظلت عالقة ومتشبثة بتلابيب العقل والفكر العربي، وسائدة في الثقافة والسياسة العربية أكثر من غيرها، وأصبحت من أهم أسس منظومتنا الفكرية والعقائدية، وقد تمددت بشكل كبير في العقود الأخيرة نتيجة العجز العربي عن مواجهة التحدي الذي فرضته الأطماع الصهيونية، وأخذ تعلقنا بنظرية المؤامرة في التشعب والتجذر إلى أن أصبحت أجيال منا تنشأ وتنمو في مجتمعات يسودها فكر تآمر الغير ضدنا وضد أوطاننا وضد معتقداتنا، وأن الغرب بشكل خاص يتآمر علينا ويستهدفنا ويستهدف ديننا، ويمنعنا من التطور والتقدم والنمو، فليس ثمة أسهل من إلقاء اللوم على الغير لتبرير العجز والفشل، إلى أن أصبح العقل العربي مسكونًا ومهمومًا ومقتنعًا بهذه النظرية التي أراحته من مشقة نقد الذات، واقتناء مقومات وأدوات النهوض، وعناء البحث عن الأسباب الحقيقية وراء ما يعانيه من جهل وتخلف، وجعلته يفقد الأمل ويركن إلى الشعور بأن العرب والمسلمين أصبحوا ضحايا الأعداء الأقوياء المتآمرين ضدنا الذين لا طاقة ولا قبل لنا بمواجهتهم، فنمت وتطورت في نفوسنا علاقة طردية بين الخوف والعجز وفكر المؤامرة الذي صار كل واحد منهم يغذي الآخر.
إن قبولنا وركوننا للنظرية ليس مؤامرة بحد ذاته، بل إن له ما يفسره؛ فقد جاء نتيجة للضياع والحيرة التي وقع فيها جيلنا بعد ما تعرضنا له من كوارث الفوضى والانقلابات العسكرية منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وما أدى إليه ذلك من هزائم وإخفاقات وانكسارات، فوجدنا في نظرية المؤامرة الملجأ والمهرب أو الأفيون الفكري المخدر الذي يعطينا الإحساس الخادع براحة البال والضمير والمبرر الذي نغطي به ضعفنا وفشلنا وإحباطنا.
ولتحرير أنفسنا من هذه النظرية علينا أن نُنقّي تراثنا، وأن ننفض أتربة الأوهام والخرافات والأساطير عن عقولنا، وأن نستنهض في نفوسنا قيم العمل والمسؤولية، ونتوجه إلى الأخذ بنواصي العلوم والمعارف، وأن نسعى إلى تفسير الأحداث والظواهر تفسيرًا علميًا سليمًا، ونحاول أن نفهم ما وراء كل حدث.
وإذا كان لنا أعداء فإنهم سيدفعوننا وسيشجعوننا، دون شك، على التمسك والتعلق والإيمان بنظرية المؤامرة؛ فالقبول والإيمان بها يؤديان إلى إغلاق عقولنا وتكبيل تفكيرنا، ويجردنا من الإرادة وينزع من داخلنا خصال الفاعلية، ويجعلنا نستسلم لأسباب التثبيط والإحباط والإقعاد عن العمل وهو ما يتناقض مع قوله سبحانه وتعالى: “وقل إعملوا...”، كما أن هذه النظرية تتعارض مع المنطق القرآني الذي يؤكد أن الله وحدة هو المتحكم في الكون ولا أحد سواه؛ فلا أحد يستطيع أن يسيطر على عقولنا أو يسلب إرادتنا. ولا نستطيع أن نلوم أحدًا غيرنا أو نبرر تقاعسنا وتقاعدنا وتخلينا عن المسؤولية، فقد حسم الباري عز وجل هذا الأمر بقوله “قل هو من عند أنفسكم”.