احتفالات البحرين هذا العام بعيدها الوطني المجيد؛ إحياءً لذكرى قيام الدولة البحرينية في عهد المؤسس أحمد الفاتح كدولة عربية مسلمة في العام 1783م، وذكرى انضمامها لهيئة الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، وذكرى تولي صاحب الجلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم؛ لم تكن مثل الاحتفالات التي تعودنا على إحيائها في هذه المناسبة من كل عام، فقد كانت متميزة بامتياز، وسيبقى صداها يتردد بين ظهرانينا لفترات طويلة.
فقد جاءت احتفالاتنا هذه المرة بعد عام مثخن بالأحداث والتحديات ومفعم بالانجازات والمكتسبات التي أدت إلى تثبيت أركان الأمن والاستقرار في ربوع الوطن، مع الاستمرار في عملية التنمية والبناء، وتعزيز مكانة البحرين في صفوف الأسرة الدولية، والتي تدعونا إلى الإحساس بالمزيد من الفخر والاعتزاز لانتمائنا لهذا الوطن العزيز المعطاء.
لقد مضى 21 عامًا منذ أن تولى صاحب الجلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم في البلاد برسالة ورؤية طموحة مستنيرة، منبثقة من الإرادة الوطنية، ومستجيبة لتطلعاتها وطموحاتها، ومنطلقة من ركائز ثابتة مبنية على تراث الآباء والاجداد، وعلى الثقة بالمواطن والقدرة على تحفيزه واستنهاض طاقاته وامكانياته لتحقيق الأهداف المنشودة، فأرسى جلالته منذ البداية مشروعًا وطنيًا طموحًا لقيادة نهضة سياسية وتنموية وحضارية شاملة ما تزال قافلتها سائرة حتى الآن، هدفها وغايتها إسعاد المواطن، ورفعة الوطن وتأهيله لمواكبة تطورات العصر الحديث ومواجهة تحدياته وتقلباته.
لقد حقق المشروع الملكي الكثير من أهدافه وغاياته، وطال بشكل لافت المرأة بصفتها النصف الأهم للمجتمع، بما أدى إلي تعزيز دورها ومكانتها ومشاركتها في كل مناحي الحياة بما في ذلك الحياة السياسية، كما حقق المشروع الملكي إنجازات سياسية واسعة، وأرسى ركائز دستورية وحقوقية وبرلمانية دعمت قواعد المَلكية الدستورية المبنية على قيم الوسطية والتعايش والتسامح ونبذ التطرف والعنف، وتعزيز روح الانتماء والوحدة الوطنية.
إن تكريس تلك القيم والمبادىء في المجتمع أدى بالنتيجة إلى الارتقاء بمستوى الأداء الإداري والسياسي الوطني، وإلى تأسيس بنية ومنظومة اقتصادية واجتماعية راسخة، مؤهلة للتطور والنمو بزيادة ومضاعفة كفاءة أداء الأجهزة الحكومية والالتزام بمبادئ الحرية والشفافية ومحاربة الفساد.
ومن منطلق إيمانها بقيم ومبادئ العدالة والأمن والسلام والاستقرار والتعاون الاقليمي والدوليي، والتزامًا بالقضية العادلة للشعب الفلسطيني الشقيق، ورغبة منها في المساهمة في إيجاد حل يحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، فقد قررت البحرين الالتحاق بركب السلام والتعاون الذي بدأ بالتفاعل والاشتباك السلمي مع إسرائيل بغية تحقيق مصالحنا الوطنية وتطلعاتنا القومية والمساهمة في إيجاد حل للقضية الفلسطينية من قلب الحدث بدلًا من الجلوس على مدرجات المتفرجين والمزايدين.
ولا تسع المساحة للتحدث عند كل أو حتى بعض من الانجازات والمكتسبات التي تحققت، إلا أنه لا بد من التوقف عند محطة واحدة فقط، وهي واقعة أو جائحة كورونا التي فاجأتنا وألمت بنا كما فاجأت وألمت بكل دول العالم، وبرزت كأكبر تحدٍّ وأصعب امتحان لاختبار إرادتنا وعزيمتنا، والتي تمكنا من مواجهتها ومحاصرتها بأقل الخسائر الممكنة، وبفضل تعاوننا ووقوفنا وراء قيادتنا ومسؤولينا ورجالنا المخلصين الذين تقدم صفوفهم صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمين رئيس الوزراء الموقر، الذي لمعت في هذه التجربة قدراته وكفاءاته وامكانياته الإدارية والقيادية، ونجاحه في الاستشعار الاستباقي المبكر لحجم وهول الخطر القادم، وسرعة التحرك في الوقت المناسب، وبكل مصداقية وشفافية جعلت الجميع يلتف حول سموه ضمن فريق واحد، فكانت ملحمة من التآزر الوطني في معركة شرسة أثبتت نتائجها أصالة معدن هذا الشعب والتزامه بقيم الولاء والاخلاص، ومقدرته على مواجهة الصعاب والتحديات بكل عزيمة وإصرار، إلى أن أصبحت تجربة البحرين مثلًا يقتدى به، حازت على إعجاب وإشادة المنظمات الدولية المعنية، وأكدت متانة وسلامة وصلابة المنظومة والبنية الطبية والعلاجية في البلاد، في حين تراجعت وانهارت أمام زحف هذه الجائحة أنظمة صحية في دول في غاية التقدم والتطور.
إن الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك المفدى في أول أيام احتفالاتنا بالعيد الوطني توج تلك الاحتفالات، وتطرق باختصار شديد إلى بعض المكتسبات والانجازات التي حققناها وليس كلها، وعبر عن نبض الأمة وصوت ضميرها وأكد العزم والإصرار على مواصلة البذل والعطاء.
وتضمن الخطاب السامي كذلك وقفة والتفاتة إنسانية معبرة، حملت بين طياتها الكثير من المعاني والدلالات، وتجلت من خلالها قيم الأصالة والوفاء والاخلاص. عندما استذكر جلالته بكل إكبار وتقدير الذكرى العطرة والمواقف الوطنية والمآثر الخالدة للمغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، الذي انتقل إلى جوار ربه في الشهر الماضي، وخلف وراءه سيرة وعطاءً سيبقيان نبراسًا ومصدرًا لنا جميعًا نستمد منهما المزيد من التصميم والعزيمة.
إننا جميعًا نشعر بكل الطمأنينة والارتياح والحبور والاغتباط، بعد أن تسلم الراية وزمام المسؤولية التنفيذية الكاملة من بعده، رمز مستقبلنا؛ صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد الأمين رئيس الوزراء حفظه الله ورعاه، في أروع انموذج لانتقال السلطة التنفيذية بكل سلاسة وانتظام، ضمن معايير الاستمرارية والتجديد في آن واحد، وفي إطار تثمين التجارب والخبرات وتراكمها ومزجها بممارسات الحداثة والابتكار والتطوير والنظرة المستقبلية، والاستفادة من هذا المزيج لبلورة رؤية تمتد عبر آفاق المستقبل، ليبدأ العام الجديد تحت قيادته التنفيذية
بالمزيد من الثقة والتفاؤل، وليتحقق بذلك قول الشاعر: إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ .. قؤولٌ لِما قالَ الكرامُ فَعولُ