العدد 4443
الأحد 13 ديسمبر 2020
banner
في أوروبا يحق للمسلمين حماية مشاعرهم الدينية
الأحد 13 ديسمبر 2020

كيف استطاع اليهود، بقيادة الحركة الصهيونية، وبعدد إجمالي بالكاد يصل إلى 15 مليون في العالم كله، أن يضعوا حدا، ويُنهوا مشاعر العداوة والبغضاء وحملات الإساءة والتنكيل والاضطهاد والإبادة التي كانوا يتعرضون لها، بكل قسوة ولقرون طويلة في أوروبا المسيحية، والتي ظلت قائمة حتى عهد قريب، إلى أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في العام 1945، بينما يعجز المسلمون بعددهم الذي يزيد على 1.7 مليار، وما يملكونه من إمكانيات وثروات، عن وقف تصاعد عمليات التجني والإساءات التي تتعرض لها معتقداتهم ورموزهم الدينية في أوروبا وخصوصًا في الآونة الأخيرة؟


إن مشاعر العداوة والبغضاء التي كانت مترسبة في قلوب المجتمع الأوروبي ضد اليهود، كانت مبنية على معتقدات دينية أساسها الإيمان الراسخ لدى المسيحيين بأن اليهود هم من كان يقف وراء قتل المسيح صلبًا قبل حوالي ألفي عام، وقد أجج هذه المشاعر المصلح المسيحي الألماني مارتن لوثر، المولود في عام 1483، الذي أدت تعاليمه إلى شطر المنظومة المسيحية في الغرب إلى بروتستانت وكاثوليك. وكان مارتن لوثر قد قال عن اليهود أنهم “لم يعودوا شعب الله المختار وإنما أبناء الشيطان” ودعا لإحراق كنائسهم، وتدمير منازلهم، والاستيلاء على أملاكهم، ومنع حاخاماتهم من الوعظ، ووصفهم بأنهم “الديدان السامة” التي يجب أن “تطرد إلى الأبد” وأنه “من الخطأ عدم قتلهم”، وهو وضع لم ولا يعاني منه المسلمون في أوروبا.


وقد تمكن اليهود من الضغط على الكنيسة في أوروبا لتبرئتهم، بعد 19 قرنًا، من تهمة قتل المسيح، فأعربت عن “اعتذارها لما أصاب اليهود من مآس حصلت بسببها أو بسبب تقصيرها في حمايتهم”، وتم تبرئتهم من دم المسيح في العام 1965 من قبل الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا بولس السادس.


ولم ينجح اليهود في تحقيق ذلك فحسب؛ بل إنهم تمكنوا من قلب الوضع رأسًا على عقب؛ بحيث أصبح الأوروبيون يحسون بالأسف والذنب والخطيئة والجرم لما أحاق اليهود من مظالم ومآس، كان أفظعها جريمة “الهولوكوست” التي راح ضحيتها 6 ملايين يهودي حرقًا أو خنقًا على أيدي النازيين الألمان، وحصل اليهود عن هذه الجريمة على تعويضات مادية ومعنوية، منها التزام ألمانيا بدفع تعويضات مالية لإسرائيل بموجب اتفاقية لوكسمبرغ لعام 1952، بلغت 3 مليارات مارك ألماني في ذلك الوقت.


وعلى الرغم من تمسك الغرب بمبدأ حرية التعبير، إلا أن اليهود نجحوا أيضًا في جعل التشكيك في الهولوكوست، من بعيد أو قريب، من حيث وقوعها أو عدد ضحاياها، أمر لا يمكن قبوله أو التغاضي عنه بذريعة حرية التعبير، بل إن القانون أصبح يحرمه ويعاقب عليه في 11 دولة أوروبية، من بينها فرنسا، وذلك احترامًا لمشاعر اليهود التي أصبحت ذكرى ذلك الحدث المروع تشكل هاجسًا مؤلمًا بالنسبة لهم وتثير استيائهم وغضبهم، مع أن التشكيك والمساس بالذات الإلهية والتهجم والإساءة والسخرية من السيد المسيح مسموح به في تلك الدول.


لقد رأينا كيف أن فرنسا ذاتها استباحت وضحت بحرية التعبير وأطاحت بأحد أبرز فلاسفتها وسياسييها المعاصرين؛ روجيه جارودي عندما أنكر الهولوكوست، فقد أدانته محكمة فرنسية بتهمة التشكيك في محرقة اليهود في كتابه “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”، حيث شكك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين، وصدر بسبب ذلك ضده حكم بالسجن لمدة سنة مع إيقاف التنفيذ؛ وذلك تقديرًا لمشاعر اليهود، فلماذا لا تتم مراعاة مشاعر المسلمين ولا تعامل قضية الصور المسيئة بالمعيار نفسه؟


كل ذلك تحقق لليهود من دون أن يدعوا إلى مقاطعة البضائع الأوروبية أو يقوموا بأية عملية إرهابية في أوروبا


والآن وقد انحسرت أو هدأت عواصف الغضب والاستياء  التي تفجرت في وجدان المسلمين بعد قيام إحدى دور النشر في باريس بإعادة نشر الرسوم الساخرة والمسيئة لنبيهم وأقدس رموز معتقداتهم الدينية؛ ما أدى بطبيعة الحال إلى استفزازهم، وحدا بنفر منهم، إلى الانتقام بارتكاب مجازر وحشية إرهابية كردة فعل غير لائقة، ومسيئة إلى سمعة المسلمين وصورتهم وقضيتهم، وأعطت نتائج عكسية؛ إذ تم  مرة أخرى ربط الدين الإسلامي بالإرهاب والعنف عندما سفكوا الدماء وقطعوا الرؤوس وصرخات “الله أكبر” تنطلق من حناجرهم، إن مثل هذه التصرفات تعمق سوء الفهم وتوسع الشرخ الذي أوجده المتطرفون الإسلامويون بين الإسلام والمجتمعات الأخرى، ووضعوا المسلمين في مواجهة جديدة مع المجتمع الأوروبي بأبعاد أكثر عمقًا وخطورة.


إن نشر الرسوم المسيئة لنبينا الأعظم، مؤخرًا، لم يحدث لأول مرة، وربما لن تكون الأخيرة، فقد سبق نشرها في فرنسا قبل 5 سنوات، كما نشر مثلها في هولندا قبل 15 سنة؛ عندها ارتفعت أصوات في العالم العربي والاسلامي منادية بمقاطعة المنتجات والبضائع الهولندية، وهذا ما حصل بالفعل لمدة قصيرة، عدنا بعدها للاستمتاع بالأجبان والألبان وغيرها من المنتجات الهولندية.


إن ذلك يدعونا إلى أن نتعلم من غيرنا كيف نتصرف في مثل هذه الحالات، وان نتجنب الانفعال والتشنج والشتم والتهجم والدعوة إلى المقاطعة، فهي عديمة الفائدة كما ثبت لنا، وعلينا من بين أمور كثيرة أخرى، أن نعمل على إزالة أسباب التوتر بين المسلمين ومجتمعاتهم الأوروبية، وذلك بالتوقف عن شراء الكنائس وتحويلها إلى مساجد، وإزاحة المتطرفين عن المنابر الدينية كالمساجد والجمعيات الإسلامية، واجبارهم على التخلي عن فكرة أسلمة أوروبا التي تشعل السخط والغضب لدى الجماعات الشعبوية والقومية في أوروبا وتثير شكوك ومخاوف الأوروبيين في أوطانهم، وتوفر المناخ الذي سيؤدي دون شك إلى إعادة الكرة بمحاولة الإساءة إلى نبينا الأكرم.


وبدلًا من الدعوة لمقاطعة المنتجات، علينا الاستفادة من المنظمات الاقليمية والدولية وقراراتها المعنية بمثل هذه القضايا، وتفعيل القنوات والأدوات القانونية والدستورية التي يحترمها ويقر بها العالم، مثل قرار الأمم المتحدة رقم 224/65 المتعلق بـ”مناهضة تشويه صورة الأديان” الذي صدر عن الدورة 65 للجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 11 أبريل 2011 وبالأخص التوصية رقم 16 منه التي تنص وتحث “جميع الدول على القيام، في إطار نظمها القانونية والدستورية، بتوفير الحماية الكافية من جميع أعمال الكراهية والتمييز والتخويف والإكراه الناجمة عن الحطّ من شأن الأديان وعن التحريض على الكراهية الدينية عموما”.


وفي شهر أكتوبر من العام 2018، وفي فرنسا ذاتها، أقرّت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بأنّ الإساءة للرسول محمد لا تندرج ضمن حرية التعبير.


جاء القرار دعما لحكم صدر في النمسا ضد سيدة نمساوية حكمت محكمة إقليمية بتغريمها 480 يورو، إضافة إلى مصاريف التقاضي بتهمة الإساءة للرسول محمد قبل 9 سنوات من تاريخ صدور الحكم.


وقالت المحكمة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، في بيان لها: إنّ الإدانة الجنائية ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول وتغريمها 480 يورو “لا يعد انتهاكا لحقها في حرية التعبير”، وأضافت: “وجدت المحكمة أن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الأخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا”.

فلماذا لا نسلك مثل هذه الطرق الحضارية القانونية، بدلًا من التشنج والشتم والدعوة إلى المقاطعة؟

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .