العدد 4436
الأحد 06 ديسمبر 2020
banner
هكذا تتحرك الدبلوماسية الخليجية
الأحد 06 ديسمبر 2020

إن القراءة الواقعية للتحولات والمتغيرات الكبرى التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط  في السنوات القليلة الماضية، تؤكد أن بؤرة الاستقطاب ومركز الثقل السياسي والعسكري والاستراتيجي في المنطقة قد انتقلتا بالفعل إلى الدول الخليجية العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين.


حدث هذا بعد أن انهارت البنية الأمنية والمؤسسية ونظام الدولة في الدول العربية التي كانت تتبوأ ذلك الموقع من قبل؛ نتيجة لعدة عوامل أبرزها تدمير أركان الدولة العراقية ونظام الحكم فيها وتفكيك مؤسساتها وقواتها المسلحة بعد الغزو الأميركي في العام 2003، إلى جانب الأعاصير التي ضربت المنطقة، في العام 2011، في ما سمي بالربيع العربي، والتي اقتلعت الأنظمة الحاكمة في تونس ومصر وليبيا واليمن وجعلتها تتساقط كأحجار الدومينو؛ ما أدى إلى انهيار مقومات القوة العسكرية والاقتصادية لهذه الدول، إضافة إلى ما وقع على سوريا من خراب ودمار واسعين.


على أثر ذلك كله أصبح العالم العربي في حالة من الفوضى والضياع، وكان من أبرز ضحايا هذا الوضع ما تبقى من أمل في حل القضية الفلسطينية واستعادة الشعب الفلسطيني الشقيق لحقوقه المشروعة، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.


وفي خضم هذا الواقع الخطير أصبح لزامًا على الدول الخليجية العربية الاضطلاع بدورها ومسؤولياتها، لحماية مصالحها، وإنقاذ الأمة من الانزلاق إلى هاوية أعمق من اليأس والتشرذم والاضمحلال، فأخذت الدبلوماسية الخليجية، زمام المبادرة، وأمسكت بدفة القيادة السياسية؛ لأول مرة بعد مرور أكثر من سبعة عقود على اكتفائها بموقع المساند والمؤيد والداعم المادي والمعنوي والسياسي، والتي كانت على استعداد دائم للتضحية بكل ما تملك من أجل نصرة القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وقد تجلت هذه المواقف وصور التضحيات عندما جازفت وقررت هذه الدول وقف تصدير النفط الخليجي، مصدرها الوحيد للدخل في ذلك الوقت،  إلى الدول الغربية في خطوة محفوفة بالمخاطر تهدف إلى دعم ومساندة الشعب الفلسطيني، ومصر وسوريا اللتين كانتا تخوضان ضد إسرائيل حرب أكتوبر 1973 حين بدأت موازين تلك الحرب تميل إلى صالح إسرائيل؛ نتيجة للدعم العسكري اللا محدود الذي حصلت عليه إسرائيل من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.


وعندما قررت دولة الإمارات ومملكة البحرين تطبيع علاقتهما بإسرائيل؛ إنما جاءت تلك الخطوة ضمن تحرك دبلوماسي خليجي، في سياق سلمي، لمواجهة إسرائيل، بأساليب وأدوات مختلفة؛ مرتكزة على المصالح المشتركة، ومن موقع القوة المبني على أسس من الثقة والصراحة وحسن النوايا، مقارنة بما كان يحصل من قبل عندما كانت الدول العربية تتجه للحل السلمي مضطرة ومن موقع ضعيف بعد أن تمنى بالهزائم العسكرية في حروبها مع إسرائيل، وفي جو من الشك والريبة وعدم الثقة.


لقد اتسم الحراك الدبلوماسي الخليجي، في تعامله مع الصراع العربي الإسرائيلي، بالتعقل والاتزان، والبعد عن الضجيج والمزايدات والمهاترات المعتادة والمعهودة، ونجحت في اختراق جدار التعنت الإسرائيلي بالمسايرة السياسية الاحترافية الرزينة منذ البداية، والتي برزت في أسلوب تفاعل واندماج هذه الدول مع مشروع “صفقة القرن” حتى تمكنت وهي في داخل الحلبة من إجهاضه، كما تمكنت الدبلوماسية الخليجية أيضًا، بالتعاون وأسلوب مد الجسور والحوار الهادئ، قبل توقيع اتفاقيات التطبيع، من التخلص من شبح ضم الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، فاختفت بذلك، ومنذ ذلك الوقت، مفردات “صفقة القرن” و”ضم الأراضي” من خطاب بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي.


وبكل تعقل وهدؤ وضبط للنفس، واجهت الدبلوماسية الخليجية كذلك، تسرع الأشقاء في السلطة الوطنية الفلسطينية، وردة فعلهم الهجومية المتشنجة القاسية، وتجريحهم واتهامهم الدول الخليجية العربية بالخيانة والغدر والطعن من الخلف وبيع القضية الفلسطينية، فيما كانت هذه الدول تواصل سعيها وجهدها وتعمل على التأثير على موقف الإدارة الأميركية واستمالتها إلى جانبها، وتوجيه الضغوط إلى الحكومة الإسرائيلية للقبول بما كانت ترفضه بشدة من قبل، فتم نتيجة لذلك التأكيد على الاتفاق بعدم مضي إسرائيل في تنفيذ قرارها بضم الأراضي، وتم أيضًا التخلي فعليًا عن مشروع صفقة القرن.


على ضوء ذلك قررت السلطة الفلسطينية العودة إلى قطار التطبيع، واستعادت مسار علاقاتها واتصالاتها المباشرة مع إسرائيل؛ بما في ذلك التعاون في مجال التنسيق الأمني،  بعد أن حصلت على ضمانات تؤكد التزام إسرائيل بالاتفاقيات الموقعة معها، وتبعًا لذلك، وقبل يومين أعلنت القيادة الفلسطينية استلام أكثر من مليار دولار من إسرائيل تشكل المستحقات المالية الخاصة بالضرائب.

بحت اليوم أكثر فعالية من الأسلحة المتطورة المكلفة، كما عليها الالتفات والاستفادة من حملات التواصل المباشر  التي انطلقت وتضاعفت في الآونة الأخيرة بين قطاعات واسعة من الجمهور الخليجي والإسرائيلي عن طريق الانترنت وبمختلف وسائل التواصل الاجتماعي، لتتشكل بذلك حلقات “الدبلوماسية الرقمية الخليجية” أو نواة لها، والتي أصبحت تلعب اليوم دورًا بارزًا ومتعاظما في حقل السياسة الدولية، آخذة في الاعتبار أن أكثر من 51 مليون شخص يستخدمون شبكة الانترنت في دول مجلس التعاون، وإن عليها استهداف حوالي 7 ملايين شخص هم عدد من يستخدمون شبكة الانترنت في إسرائيل، مع أطيب التمنيات للدبلوماسية الخليجية بالمزيد من التقدم والنجاح.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية