+A
A-

تقي البحارنة ... عين ثاقبة لبداية نشأة البحرين حتى النهضة

ضيفنا في “لقاء الأحد” هذا الأسبوع شخصية استثنائية لعبت دورًا في العديد من الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأدبية، فهو أوّل سفير للبحرين في الخارج بعد استقلالها، إذ تم تعيينه في منصب سفير البحرين في مصر ومندوبها الدائم لجامعة الدول العربية خلال السنوات 1971 - 1974، وكان عضوًا في مجلس الشورى في العام 1993، وأحد رواد الفكر والإبداع تميز بتواضعه ودماثة خلقه ومرحه. 

كما أنه رجل أعمال بارز وله إسهاماته على الصعيد الاقتصادي والتجاري، إذ لعب دورًا في تأسيس البنك الأهلي المتحد وشركة التأمين الأهلية، كما كان عضوًا مؤثرًا في مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين خلال فترة السبعينات والثمانينات.

حصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من قبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات في العام 1973، وجائزة تقدير الدولة للعمل الوطني من سمو رئيس الوزراء - البحرين العام 1992، كما حصل على وسام الشيخ عيسى من الدرجة الأولى من قبل جلالة ملك البحرين 2001، وحاز شهادة التقدير للعمل الدبلوماسي من وزارة الخارجية خلال 2009، وحصل على وسام البحرين من الدرجة الأولى من قبل جلالة الملك.

وله إصدارات عديدة للكتب والدواوين بمجموعة من مؤلفاته في الشعر والأدب والتاريخ، ضيفنا هذا الأسبوع هو الأديب الشاعر ورجل الأعمال تقي محمد البحارنة، وفيما يلي نص الحوار:

 

حدثنا عن طفولتك؟

- ولدت في فريق المخارقة في المنامة، وتنقلت بين أهلها وطرقاتها في ملاعب الصبا ومنافذ الأسواق، وفعلت ما يفعل الصبيان ببراءة عفوية ورقابة أبوية وشغف في حب الاستطلاع ونشوة عند الفوز وحسرة عند الخسارة وفرح في أحضان الوالدين وتطفل على مجالس النساء، وتجول في منازل الجيران بعذر لا يمنع من الطرد بأعواد المكانس - والخوف من الأشباح والظلام، وكوابيس تهد كياني في “حمى الملاريا” و”داء الزحار” وجروح دموية في القدم وأصابعها جراء لعبة كرة القدم البدائية، ونشوة بهلوانية في ركوب دراجة القدم، وإشفاق طفولي على الدجاجات التي أطعمتها وهي تتلوى حين يذبحها “معلّم الصبيان”- وعويل مبالغ فيه عند العقاب، وبهجة عند المغيب بهدايا والدي حين يعود، وحبّ للقراءة، واجتهاد في الدرس على رقص الشموع أو تحت مصابيح الدروب وأحيانًا تحت ضوء القمر قبل عهد الكهرباء. ومغامرات خطرة في العبث بأسلاك الكهرباء أنقذني الله منها.

وكان ما يميزني عن غيري من الفتيان هو ميلي للمسالمة وتحاشي العراك إلا فيما ندر. كان والدي يحبني ويدللني أكثر من إخوتي، فلا عجب إذا نسيت عقابه لي ونسيت عصاه التي كان يلمعها بالزيت ثم تنشطر أطرافها عند إيقاع العقاب. وأقول اليوم أن سلطان الحب هو الأعذب والأقوى.

تلك هي رؤوس أقلام طفولتي (وحديثها يطول)... عفا الزمن على ما آلمني فيها واستقر في أضلعي وذاكرتي منها كل مفرح وسعيد.

وأما والدي فهو المرحوم حجي محمد بن مكي البحارنة، ولديّ أخوان شقيقان هما أخي صادق والدكتور حسين وشقيقتان، ومن البيت الآخر ثلاثة أخوة هم (عبد علي ومنصور، وعبد الرضا) وأختان.

لقد كان والدي حريصًا على اتباع تعاليم الشرع ومتديّنًا وكان يعمل بالتجارة، وكان حريصًا على أن تكون تجارته موافقة للشرع، وأي شيء غير ذلك لا يقبله مثل الربا، أو مصادرة ما يسمى بالعربون، وما شابه ذلك. وإذا أبرم صفقة أو اشترى منه شخص يأخذ منه توقيعًا على المبلغ أو الشراء فقد كان لديه دفتر يقيد فيه التوقيعات أو البصمات بجانب كل عملية شراء وبيع.

وكان والدي لصيقًا بعلماء الدين والقضاة الشرعيين في البحرين. يطبق الشرع على العائلة أيضًا في مجال الصرف والكسوة وأن لكل فرد في العائلة كسوتان على الأقل واحدة في الصيف وأخرى في الشتاء ويحرص على العدل بين البيت الكبير والبيت الصغير في الصرف وفي المؤونة وفي مناوبة الزيارة بين البيتين كان شديد الحرص على ذلك بسبب احتكاكه الدائم بعلماء الدين وكان يستضيف علماء القطيف والأحساء وخطباء المنابر الحسينية في منزله عند ذهابهم إلى العراق وعند رجوعهم ويستفيد من آرائهم وفتاواهم. إضافة إلى أصحابه التجار الذين كانوا يأتون من بومباي ومسقط وساحل عمان والكويت و(المحمّرة) والبصرة فكان بيتنا لا يخلو كل شهر تقريبًا من ضيوف ومأدبة كبيرة على شرف هؤلاء، وكانوا يقيمون في بيتنا وأحيانًا في البيت الكبير. 

وكانت لديه سفن تجارية ومعرفة بشؤون البحر وعينه المستشار عضوًا في لجنة حل المنازعات الخاصة بالبحر. وفي إحدى المرات كنت معه في (الدكاّن) أي المكتب وأنا صغير، وقد غرقت إحدى سفنه القادمة من الكويت عند (القليعة) بما فيها من بضائع وتسمى اصطلاحًا (بالأموال) وكان قد استدعى (نوخذا) السفينة أي الربّان واسمه يعقوب... وتوقعت أن يعنفه على إهماله والخسارة الكبيرة التي تسبب فيها. وفوجئت حين سأله سؤالا واحدًا فقط ثم تركه يمضي بهدوء ودون تعنيف. وكان سؤال والدي له: بشرني هل حدثت خسارة في الأرواح أم لا فقال: لا- الجميع بحمد الله بخير سالمين. ثم أمره بالانصراف.

فسألت والدي مستغربًا، فأجابني بما معناه: يا ولدي لا شك أن خسارتي كبيرة ولكن المال يأتي ويذهب والله هو الرازق والمعوّض، ولكن فقد النفوس لا يعوّض وأنشد أمامي هذا البيت:

(إذا سلمت رؤوس الرجال من الأذى * فما المال إلاّ عدة للنوائب)

وبالمناسبة، فقد عهدت في تردّدي على السوق في ذلك الزمن العديد من أصحاب الخير يجمعون المال لإسعاف من غرقت سفينته وأمواله في البحر، إذ لم يكن التأمين البحري مألوفًا آنذاك.

جانب من اللقاء

 

في أي عام كان ذلك؟

- كان الوالد يستضيفهم منذ أن بدأ بممارسة التجارة في العام 1914. وأنا ولدت في العام 1930 ورأيت هذه المظاهر كلها. وقد كان والدي وكيلاً للمراجع الدينية في النجف وكان آخرهم السيد محسن الحكيم، وقد كان والدي يرسل طلبات الفتاوى (أسئلة الأشخاص المتدينين) إلى المرجع الديني في النجف الأشرف ويعطيهم الجواب كتابيًّا بالإضافة إلى من لديه أخماس أو صدقات يريد أن يتصرف فيها المرجع الديني في النجف فكان يرسلها إليهم، لقد نشأت في هذه البيئة. ومعروف عني أنني كنت أرافق والدي حيثما يذهب. كما أرافق من يروق لي من ضيوفه لا سيما آل عصفور من (صحم) في عمان. كما كنت أحاجج ببعض علماء الدين في المسائل التي لا تعجبني.

 

أنتم من أوائل من عمل بالسلك الدبلوماسي، كيف وجدتم هذه التجربة؟

- إذا تكلمنا عن انتقال البحرين إداريًّا إلى تكوين دولة عصرية فهذا أخذ فترة طويلة، ولاشك أن فترة بقاء المستشار بلجريف في البحرين كانت ترافقها تطورات إصلاحية في مجال التعليم، والصحة، والخدمات ما عدا المجال السياسي، فقد كان من المعروف عنه كونه لا يرتاح لأي معارضة. كان إذا قرّر وأمر لا يحبّ أن يعترض عليه أحد، إلا أنه مع ذلك كان يستضيف الناس في مكتبه ويستمع لهم، وكان حريصًا على الإجابة على كل الرسائل والعرائض وكان يحضر شخصيًّا إلى الموقع الذي يكون فيه نزاع، وفيما عدا الحركات الوطنية والسياسية، إذا لاحظ اختلالاً في نظام المجتمع كان يتلافاه ويصدر تعليماته، مثلا قضية الميراث (المواريث) كان يوجد فيها نزاعات كبيرة ولهذا قام بتشكيل لجان وأنشأ إدارة أموال القاصرين للورثة، إن عبارة أموال القاصرين تترجم في اللغة الإنجليزية Minors Departments وجاء في مذكراته أن أحد الصحافيين كان يتصور أن في البحرين مناجم للتعدين وأراد منه أن يساعده لزيارتها فأجابه أن الكلمة تعني أموال القاصرين وليس في البحرين مناجم تعدين.

ومن غرائب ما ذكره المستشار بلجريف أنه ذكر أيضًا في كتابه أن البحرية الأميركية أرادت أن تتخذ قاعدة لها في البحرين في سنة 1930 فأمره المعتمد البريطاني أن يستشعر آراء الناس في ذلك فتجاهل بلجريف قادة المعارضة في ذلك الوقت والمثقفين، وقام باستدعاء حوالي ستة أشخاص من قرى البحرين، وكتب في مذكراته أنه عندما اجتمع بهم أجابوه يا الصاحب (كما كانوا يطلقون عليه) ما عندنا مشكلة لكن مشكلتنا أن البيض سوف يرتفع سعره ويقلّ عرضه في الأسواق، وأرسل هذا الجواب إلى المعتمد.

لقد عاصرت منذ صغري هذا التطور البطيء في إنشاء المستشفيات، والمدارس، والمرافق والخدمات العامة.

وأيام الحرب العالمية الثانية عطلت مشاريع التنمية، وكان الناس يشكون من ندرة مواد التموين، وبعض القرى عانت من الجوع حتى الموت، ثم بعد الخمسينات أصبحت هنالك حركة وطنية باسم الهيئة التنفيذية العليا وتم الاعتراف بها تحت اسم (هيئة الاتحاد الوطني) وزعماؤها معروفون، وقدموا مطالب إصلاحية لكن الحكومة بدأت تستجيب، ولكن بشكل جزئي لم يشف الغليل وأصلحت بعض القوانين، وأنشأت مجلسين: مجلس التعليم كنت عضوًا فيه ومجلس الصحة، ثم قاطعت هيئة الاتحاد الوطني كلا المجلسين فلم نحضر دعوة الانعقاد التي أرسلها المستشار بلجريف، ثم بعد رحيل المستشار بلجريف، تشكل المجلس الإداري ثم مجلس الدولة الذي كان نواة لمجلس الوزراء. 

هذا كان في فترة الستينات، أما في السبعينات وبالتحديد في 1971 فقد استقلت البحرين وعقدت معاهدة مع بريطانيا، وخرجت القوات البريطانية من البحرين، وأصبحت البحرين مستقلة، ولهذا كان لابد من تشكيل حكومة عصرية جديدة، وذلك في عهد المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة. وما لبث أن أعقب الشيخ عيسى ذلك بإنشاء مجلس تأسيسي لوضع دستور للبلاد وانتخاب مجلس نيابي، وهي نعم المكافأة والوفاء من سموه لشعب البحرين تجاه مواقف الشعب المشرّفة لإسقاط مطالبة شاه إيران بالسيادة على البحرين في سنة 1970. وبذلك استكملت دولة البحرين مقومات الدولة الدستورية الحديثة. واختارني سموه لأن أكون أوّل سفير للبحرين في الخارج، وكانت البداية مع الشقيقة جمهورية مصر العربية، وكان لابد من اعتراف الجامعة العربية بالبحرين كعضو دائم، بعد قبول عضويتها في الأمم المتحدة، ولهذا فقد كانت من ضمن مهمّاتي هي ترؤس بعثة البحرين في الجامعة العربية وتم تقديم الطلب وذلك في 14 شهر أكتوبر 1971. وتم قبول عضوية البحرين شكليًّا ومشاركتها في أعمال واجتماعات الجامعة العربية حين تقديم الطلب، وفي شهر فبراير 1972 استكملت الإجراءات القانونية وصدر الاعتراف الرسمي من قبل جامعة الدول العربية.