+A
A-

للقراءة: "العدول التركيبي في النحو العربي"

النحو العربي كيان معرفي تعاونت على خط مساراته الفكرية أجيال متعاقبة في حقب متوالية، وتثاقفت معه علوم مختلفة في ارتسام مقولاته التي تباينت واتسعت لتشتمل على أنظار متنوعة تماثل تعدد النظر اللساني الحديث إلى الفعل اللغوي.
ولعل ما يشهده البحث اللساني المعاصر من تطورات متنامية يحتم علينا النظر في معطياته، ولا سيما ما جاوز منها حدود اللغة وأنساقها التعبيرية مادا أذرعه المتطاولة إلى مضمار العلوم الأخر المتصلة بها بوشائج متفاوتة، ليثمر نظريات لسانية مدعمة بملامح فلسفية أو اجتماعية أو نفسية أو أنثروبولوجية، وهو المنهج التداولي الذي ولد نتيجة تلاقح اللسانيات مع العلوم الأخر، وبهذا يُمثل مستويات التفكير البشري في البحث اللغوي المشترك بين اللسانيات والمعارف المسايرة لها.
وتبدو إشكالية إسقاط الحداثة على التراث أهم العقبات التي تواجه ما يُسمى بلسانيات التراث، مما يفرض علينا وعيا حذرًا بالأسس المعرفية التي أقامت بنية النحو العربي النظرية، والظروف التي واكبت صياغة أطره المفهومية، ثم إدراك التفاوت التاريخي بينه وبين الأنظار التداولية الحديثة التي ولدت في سياق ثقافي مغاير وسمها بخصوصياته البيئية والفكرية، غير أن وحدة الموضوع واشتراك المبادئ يُبرّران اتخاذ منهج وسط يقوم على تحليل الظواهر العدولية على أساس الخصائص الذاتية التي رقتها المنهج النحوي العربي، وقراءة قيمها التواصلية في ضوء النظريات التداولية، بغية كشف محور الفكر التداولي على مر الأجيال، وتعيين مواطن التلاقي بين المنهجين العربي القديم والتداولي المحدث؛ بالنظر إلى ما اشتمل عليه النحو العربي من قيم متناثرة تحقق كفاية نظرية وإجرائية إذا ما أعيدت قراءتها في ضوء منهج علمي منسق المبادئ والأسس الفكرية، فالقواعد العدولية المؤسسة تداوليًا تُمثل منوالا لسانيًا متسق الأبعاد الوظيفية.
إن بحث العدول التركيبي في ضوء منهج تداولي يُحقق غايتين أساسيتين؛ الأولى تتمثل باستكشاف الأنظار التداولية والتحليلات اللسانية القيمة لدى نظار العربية، بدءًا بسيبويه في كتابه وابن جني في خصائصه والجرجاني في دلائله ومن اقتفى آثارهم، والثانية تقديم صورة عن طبيعة البحث النحوي الذي طالما وسمه بعض المحدثين بالشكلانية أو المعيارية التجريدية، بناءً على استقراء جزئي أنتج تقييما هامشيًا، وتتضمن الغايتان كشف الظواهر العُدُولية؛ لما بين العدول والتداول من التقاء على الاستعمال اللغوي الذي يعرض له المنهج التداولي في مقاربة العدول التركيبي.
وبناء على هذه الأوليات الممهدة للموضوع، يتأسس التخطيط المنهجي على تعريف العدول التركيبي بتمهيد تضمن بحث العدول في أصله المعجمي، وتداوله الاصطلاحي عند النحاة، ثم تبيين مقاصده المفهومية لديهم، وما قرره المحدثون من مفاهيم نظرية إزاء هذا المصطلح، وينتهي التمهيد بعرض التركيب عند النحاة مصطلحا ومفهوما.
أما الفصول، فأولها للمنهج الذي نُحلّل في ضوئه الأنظار النحوية القديمة والظواهر العدولية في اللغة العربية، إذ نحتاج إلى تبيين أسسه وتوضيح مقولاته النظرية، مما أفضى بنا إلى تناول التداولية مُصطلحا ومفهوما، ثم عرض المفاهيم التداولية على وفق انتمائها النظري، فلكل نظرية من النظريات التداولية جملة من المصطلحات والمفاهيم الخاصة بها. هذا في المبحث الأول من الفصل الذي عني بالمنهج التداولي. أما الثاني، فقد اختص بالقيم التداولية في اللسانيات، سواء منها ما ابتدعتها النظريات الوظيفية أم ما استرفدتها من النظريات التداولية الفلسفية.

ويبدأ صميم عملنا في الفصول اللاحقة، فالثاني شرعنا فيه بمبحثين جمعهما عنوان (العدول النوعي)، أولهما حلل العدول الرتبي أو ما اصطلح عليه في النظرية النحوية بـ (التقديم والتأخير، فتناول المبادئ المتحكمة بترتيب عناصر الجملة العربية، والأبعاد التداولية المتحصلة من العدول عن الأصل النمطي للتراكيب، فسبر النقل الموقعي على مستوى الوحدات الإسنادية والخارجية، وأخذ المبحث الثاني (المخالفة) بكشف العدول عن العلاقات المطابقية بين العناصر التركيبية، كالعدول عن قيم الضمائر الشخصية وقيم التوافق النوعي أو العددي والإتباع الإعرابي.
وجعلنا (العدول الكمي) عنوانًا للفصل الثالث أي العدول المنظور إليه على أساس كم الجملة نقصًا وزيادة فأول مباحثه للحذف الذي يختزل فيه أحد العناصر التركيبية، وقرائنه السياقية الداخلية والتكميلية، وسيرورة استدلالاته، في حين توزعت الزيادة على المبحثين الثاني والثالث فالثاني للزيادة بالتكرير الذي يقوم على شروط تخاطبية ويضطلع بوظائف تواصلية وأبعاد إنجازية تخللت المبحث وتوزعت على مفاصله والثالث (الفصل) للزيادة بإدخال عنصر خارجي بين أجزاء التركيب الأساسية مُوزّعًا على محورين، الأول للفصل بالمفرد والثاني للفصل بالجملة الاعتراضية عامدين في كليهما إلى إبراز العلاقة الدلالية والأبعاد التداولية بين التركيب الأساس والفاصل الذي يتخلل أجزاءه.
وآخر الفصول هو العدول الوظيفي) الذي تضمن مبحثين؛ هما العدول التضميني والعدول الإنجازي، يشتمل الأول على ما اصطلح عليه بـ (النيابة والتضمين في النحو العربي، لينظر في عملية التحول الدلالي عن تراكب الفعل مع حرف جر غير مخصص له في الأصل التواضعي، ويجد الثاني النظر في تحول وظيفة النسق الإخباري إلى الإنشاء أو الإفصاح، وعكس ذلك من الأفعال الكلامية غير المباشرة.
ولا مناص بعد الفصول من خاتمة تُجمل فيها النتائج، وتثبت فيها الملاحظ المهمة التي تبدت من البحث التداولي في ظواهر العدول التركيبي عند نحاة العربية، يتلوها ثبت بروافد البحث من المصادر والمراجع التي أفدنا منها في هذا العمل.