+A
A-

إبراهيم عبدالكريم (2-1) .. رجل الاقتصاد

أول لقاء مع سمو رئيس الوزراء في 1967.. رجل دولة بحق

في 1970 أصبحت مديرا للشؤون الاقتصادية ثم وكيلا للمالية

عشنا ظروفا صعبة في العراق بسبب التداعيات السياسية

عملت مدرسا لمادتي الإنجليزي والعلوم براتب 200 روبية

رفضت وزارة الزراعة وأكرمني سمو رئيس الوزراء بالمالية والاقتصاد

والدي رفض ذهابي للدراسة في بيروت وضاعت البعثة

درست الاقتصاد في بغداد رغم أن مجموعي أهلني للطب

نصحني الشيراوي بالعمل في بابكو لتعلّم التنظيم والمؤسسية

 

حياة مليئة بالمثابرة والجهد والعطاء، بدأ ابن الحد وهو من عائلة بسيطة من الصفر ووصل إلى القمة، خدم البحرين وأهلها وحكّامها، دافع عن عروبة وخليفية الوطن الذي يسكن قلبه أينما حل وارتحل.

يسجل لإبراهيم عبدالكريم، الاقتصادي المتمرس، دوره ومساهمته الفاعلة في بناء الاقتصاد الوطني على مدار 30 عاما، تنقل خلالها في العديد من المواقع والوظائف، بدءا من دائرة الشؤون الاقتصادية إلى أن أصبح وزيرا للمالية والاقتصاد الوطني.

كما يعتبر عبدالكريم مهندسا جعل المنامة مركزا ماليا عالميا عندما أطلق فكرة جذب البنوك والمصارف الدولية في سبعينات القرن الماضي إلى السوق المحلية، بما يعرف بـ “الأفشور” في ذلك الوقت، مستفيدا من صعود أسعار النفط وبدء تراكم فوائضه المالية في الخليج العربي، واستثمار إمكانات البحرين وبنيتها التحتية التي كانت الأفضل بالمنطقة.

اشتغل معلما 4 سنوات قبل أن يدرس الاقتصاد في بغداد ويعود إلى أرض الوطن حاملا علومه وفكره وتفوقه، حيث اعتاد أن يكون الأول في جميع مراحل التعليم. عمل في شركة نفط البحرين “بابكو” بعضا من الوقت، ومارس الصحافة بعضا آخر، قبل أن يستقر بالحكومة.

تنبه له باني البحرين، رئيس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان مبكرا، وكعادة رجل الدولة، قربه وأعطاه الصلاحيات والثقة ليستثمر إمكاناته، فقامت بينهما علاقة عمل ومودة وأخوّة، واجتمعا على حب البحرين والسهر على بناء الأوطان.

حدثنا أبو مازن عن حياته وفتح قلبه لـ “البلاد” التي حاولت تلخيص مسيرة طويلة من العطاء على صفحتين، رغم أنها تحتاج صحيفتين من الحجم الكبير.

فيما يلي نص الحوار دون تدخل، كما سمعناه من ضيفنا العزيز مباشرة:

حدثنا عن البدايات

أنا من مواليد 1940 في الحد، وتلقيت التعليم بالمراحل الأولى في مدارسها، وتخرجت في 1953، وكنت الأول على المملكة، لأنتقل بعد ذلك إلى المدرسة الثانوية بالمنامة.

كانت المنامة بعيدة نسبيا، ولم أكن أعرفها جيدا، فقد زرتها قبل ذلك مرتين أو ثلاث فقط، ما جعل الذهاب إليها شيء مميز. أتذكر أنه أقيم حفل كبير ونحن في السنة الابتدائية الأخيرة في سينما القصيبي لتكريم الأستاذ أحمد العمران، أبو التعليم في البحرين، بمناسبة مرور 30 عاما على بقائه في التعليم، وبالطبع استمر العمران في عطائه لنحو 50 عاما، وأصبح وزيرا للتربية.

اختاروا مجموعة طلبة من مدرستنا للمشاركة بالحفل كنت أحدهم، (...) كان الذهاب للمنامة عيدا، فرحنا له كثيرا، وشاركنا بالحفل الذي حضره حاكم البحرين وقتها الشيخ سلمان بن حمد.

علق في ذهني يومها قصيدة، أحفظ بعض أبياتها إلى اليوم رغم مرور 60 عاما، ألقاها أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الثانوية، وهو مصري يدعى أحمد سالم.

التحقت بعدها بمدرسة المنامة الثانوية وسكنت القسم الداخلي، كأبناء جيلي الذين كانوا يقطنون خارج العاصمة في ذلك الزمن، حيث يتعذر الذهاب للبيت يوميا لبعد المسافة وغياب المواصلات.

ضياع بعثة بيروت

بعد سنتين بالمدرسة الثانوية تم تقسيمنا إلى فروع العلمي والأدبي والتجاري والمعلمين، وأنا، ولا أعلم لماذا اخترت قسم معلمين، ثم تخرجت وكنت الأول، وحصلت على بعثة في بيروت لكن الوالد، رحمه الله، لم يكن متحمسا لسفري، وبالطبع خضعت لإرادته.

كان والدي بسيطا، ولديه دكان (بقالة) متواضعة يبيع فيها بعض الأغراض التي لا تحتاج إلى تبريد أو تثليج، فيما يذهب بالصيف للغوص إلى أن هجر هذه المهنة الشاقة بنهاية الأربعينات.

قررت العمل بالتدريس، وعملت معلما لمادتي الإنجليزي والعلوم في مدرسة الحد 4 سنوات، وكان أول راتب تقاضيته 200 روبية (20 دينارا).

بعد ذلك أيقنت بأهمية ذهابي إلى الجامعة، وبدأت البحث عن فرصة، كان من الصعب الحصول على بعثة بعد استنكافي لبعثة بيروت، وفي الوقت ذاته كانت ظروف الوالد المالية لا تسمح بتدريسي على حسابه الخاص.

وفي تلك الفترة كان اتحاد الأندية الوطنية بالبحرين يبتعث طلابا إلى بغداد، وبالفعل حصلت على مقعد، (...) حزمت أمتعتي وانطلقت إلى هناك في سبتمبر 1961، وعند وصولي قال لي المسؤولون بالجامعة أنه باستطاعتي دراسة الطب أو الهندسة، لكنني اخترت الاقتصاد لحبي له.

الحياة في بغداد

كانت الظروف السياسية في بغداد صعبة، (...) يعيش الشارع آخر أيام المد الشيوعي، والمباحث منتشرين في كل مكان، ثم صارت ثورة رمضان (8 فبراير)، حيث قتل الرئيس عبدالكريم قاسم، ليخلفه عبدالسلام عارف. الوضع متوتر وصعب وخطير وتغييرات سياسية سريعة، وأحزاب ونشطاء وحراك، (...) شيوعيون وبعثيون وقوميون وغيرهم.

بعد 9 أشهر حدث انقلاب نفذه البعثيون الجدد، واستلم أحمد حسن البكر، وبدأت مرحلة جديدة.

العودة إلى البحرين ولقاء الشيرواي

انتهيت دراستي وعدت للبحرين لتبدأ مرحلة الحياة العملية الجديدة.

ذهبت في مايو 1965 للقاء سكرتير الحكومة في ذلك الوقت، الأخ يوسف الشيراوي، رحمه الله، ولم أكن أعرفه قبلها، عرفته بنفسي، فقال لي: أنا أبحث عنك.

وواصل: أوصاني بك أستاذك الدكتور حميد القيسي، فقد بعث لي برسالة يقول فيها “عليك الاهتمام بإبراهيم عبدالكريم، سيكون رجل الاقتصاد في البحرين”.

بصراحة سعدت كثيرا بذلك، فقد كان أستاذي الذي أعتز به.

وتابع الشيرواي حديثه: لن أوظفك في الحكومة، لن تستطيع التقدم والإنجاز فيها حاليا، لكنني أريدك أن تذهب للعمل في شركة نفط البحرين “بابكو”، فهي منظمة ومؤسسية، (...) تعلّم هناك وأثبت نفسك ووقتها سنأخذك للعمل معنا. لقد أكبرت فيه هذا الطرح.

ثم عرض مساعدتي لدى “بابكو” فقلت له لا احتاج توصية، فأنا أعرفهم جيدا بحكم أنني كنت أعمل لديهم في الصيف (بالإجازات) كغيري من طلبة البحرين.

بابكو بداية الطريق

وبالفعل خلال 10 أيام كنت على رأس عملي بدائرة شؤون الموظفين. كانت الشركة تأخذ الخريجين البحرينيين، فقد كانت الحكومة تضغط عليها بضرورة البحرنة.

ومن المعلوم أن الموظفين في بابكو كانوا في تلك الفترة 3 فئات، بحرينيون بوظائف يدوية وقليلون كتّاب، وهنود وهم الطبقة الوسطى، حيث يعملون مسؤولي فرق، والإنجليز في الإدارة والمهندسون والوظائف العليا.

اللقاء الأول مع سمو رئيس الوزراء

جاءتني مكالمة هاتفية في العام 1967 يخبرني المتصل بأن صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان يريد أن يراك، فوجئت وتملكني بعض الخوف، وتساءلت مع نفسي هل أزعجه أحد مقالاتي؟ كوني كتبت في بعض المجلات.

استقبلني سموه ورحب بي، شعرت بالراحة، خصوصا أنه عاملني كأنه يعرفني من زمن. وقال لي: أنا أقرأ مقالاتك وسعيد بأن أشوفك وعندي شغل لك.

وتابع: يريد الإنجليز تأسيس مجلس للتنمية والتطوير  بالساحل المتصالح (كان يسمونه هكذا وقتها)، وهو دولة الإمارات العربية المتحدة، وطلبوا من البحرين شخص اقتصادي للذهاب إلى دبي أو أبوظبي لمساعدتهم على ذلك، ووقع اختيارنا عليك لهذه المهمة.

صمت ثم ابتسمت، فقال لي سموه: يبدو أنه عندك كلام. قلت له أنا تشرفت بمقابلتك وأنا طوع أمرك، ولكنني تزوجت حديثا، وزوجتي حامل ولديها مشاكل صحية، وأنا يا طويل العمر، أفضّل أن أكون في خدمتك بالبحرين بأي شيء تختاره لي.

تفهم سموه الأمر، وقال لي على راحتك، والله يوفقك.

ثم واصلت العمل في بابكو، وتنقلت داخل الشركة من وظيفة إلى وأخرى.

اللقاء الثاني مع سمو رئيس الوزراء

بعد عامين، أي في بداية 1969، جاءني اتصال آخر يبلغني أن سموه يريد أن يراني ثانية، وبالفعل ذهبت وبنفس طريقته الدمثة، استقبلي وأكرمني، (...) ولدت بيننا محبة مستمرة إلى الآن.

ابتسم، وقبل أن يتكلم قلت له “يا طويل العمر أنا تحت أمرك بأي شي تبيه”، قال لي: قررت الحكومة البريطانية الانسحاب من مناطق شرق السويس، أي من كل القواعد التي تقع بهذه المناطق بما فيها البحرين وعدن وسنغافورة وغيرها، وخلال سنتين ستتركها نهائيا.

ومن المعلوم والكلام لإبراهيم أن البحرين رغم استقلالها إلا أن بريطانيا كانت تتولى الشؤون الخارجية والدفاع والطيران المدني بما فيه المطار في ذلك الوقت.

وقال سموه: اخترتك أنت والشيخ عيسى بن عبدالله بن حمد، للعمل على المطار وتهيئته حتى تديره البحرين. قلت له تحت أمرك. كنت سعيدا بالمقابلة وكذلك الأمر بالنسبة للتكليف.

ثم بعد مدة ذهب الشيخ عيسى للمهمة وأنا لم يتم طلبي.

الاستفتاء على عروبة البحرين

في نهاية 1969، تم اختياري للقاء مسؤولي الأمم المتحدة الذين جاءوا إلى المملكة لاستطلاع آراء المواطنين بمستقبل البحرين والحكم فيها، ضمن موضوع الاستفتاء.

ومن المعلوم أن شعب البحرين أثبت عروبته ووطنيته في هذه المسألة، وهي حالة تكررت أيضا عند تسلم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى سلطاته الدستورية (ميثاق العمل الوطني)، وكذلك عند إصدار الدستور.

وبالطبع اجتمع البحرينيون على كلمة واحدة وهي أن البحرين عربية مستقلة لا علاقة لها بإيران، كما جددوا البيعة والولاء لحكم آل خليفة الكرام.

تشكلت لجان لهذه الغاية، وكنت في لجنة يرأسها السيد محمود العلوي مسؤول المالية في الحكومة، رحمه الله، وعُقدت العديد من اللقاءات لهذه الغاية.

أذكر أنه في أحد اللقاءات طلبت الكلمة، وكان من الحضور مجموعة من أندية المنامة، وصادف خلال حديثي دخول صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الذي كان يزور اللجان، (...) تكررت الصدفة في اليوم الثاني، فخلال حديثي في لقاء بنادي الدراز بحضور جمع من أهالي البديع والقرى الشمالية، دخل سموه أيضا.

وعقب لقاء الدراز، قال سموه لي: تعال الأسبوع المقبل داوم في الحكومة، قلت له السمع والطاعة.

وبالفعل ذهبت إلى بابكو وقدمت استقالتي، والتحقت بعملي الجديد في الحكومة.

في 1970 أصبحت مديرا للشؤون الاقتصادية، التي أضيف لها في نهاية العام نفسه قطاع النفط، ثم ترقيت في العام 1973 وصرت وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني.

اللقاء الثالث مع سمو رئيس الوزراء

في عام 1975، حُل المجلس الوطني، وأوقف العمل بالدستور، واستقالت الحكومة، ثم شكّل صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان حكومة جديدة، ودعاني لتولي وزارة مستحدثة هي التجارة والزراعة.

كما استحدث في تلك الحكومة وزارة للإسكان وأخرى للصناعة والنفط.

بالطبع أنا مغرم بالمالية وبالشؤون الاقتصادية، ولا أريد أن تنقطع علاقاتي بالصناديق المالية العربية، وبالمؤسسات الإقليمية والدولية ذات العلاقة مثل صندوقي النقد والبنك الدوليين وغيرهم.

تساءلت بيني وبين نفسي، ماذا يمكن أن أعمل بالزراعة، فأنا لا أفهم بهذا المجال، كما أنني أحتاج للبدء من جديد بالتجارة، ماذا أفعل؟

استأذنت من سمو الأمير خليفة بالكلام، وكطبيعته دائما مرحبا ودافئا، وقال لي تفضل، فقلت “يا طويل العمر أنا مغرم بالاقتصاد، وأفضل البقاء وكيلا للمالية بدلا من استلام وزارة ليس لي فيها خبرة، لكن أمرك على العين والرأس وتكليفك تشريف لي وأنا طوع بنانك”.

فقال لي: أنا أحب الرجل الصريح، أنت شخص عزيز ومعزتك زادت الآن.

ثم تشكلت الحكومة وتسلّم السيد محمود العلوي وزارة المالية، في حين أسندت وزارة التجارة والزراعة للشيخ عبدالله بن خالد بالوكالة، الذي كان وزيرا للعدل والشؤون الإسلامية، وبقيت مكاني وكيلا للمالية.

اللقاء الرابع مع سمو رئيس الوزراء

ثم طلبني سموه مرة أخرى، وقال لي إنه قرر تغيير اسم وزارة المالية والاقتصاد الوطني إلى وزارة المالية، وتغيير اسم وزارة التجارة والزراعة لتصبح التجارة والزراعة والاقتصاد، وكلفني بأن أكون وزيرا للثانية، كما واصلت إشرافي على وزارة المالية بسبب مرض السيد محمود.

بعد 6 أشهر اشتد المرض على السيد محمود، وقال إنه لا يستطيع المواصلة، فقبل سمو رئيس الوزراء استقالته وكرّمه بأن عينه مستشارا لرئيس مجلس الوزراء.

اللقاء الخامس مع سمو رئيس الوزراء

ناداني سموه مرة أخرى، وقال سنرجعك على المالية وزيرا، وقلت له يا طويل العمر أريد الاقتصاد، فوافق وأرجع اسم الوزارة إلى المالية والاقتصاد الوطني وبقيت بهذا الاسم إلى أن خرجت من الحكومة في منتصف 1999.

 

(يتبع الأسبوع المقبل)