+A
A-

كفى بالفن فخرا أن يكون إبراهيم بحر أحد فرسانه

لا عجب ان يكون الفنان الراحل الكبير إبراهيم بحر جوهر الحياة المتدفقة والمجد والإثراء، فكفى بالفن فخرا انه يكون إبراهيم بحر احد فرسانه لسنوات طويلة أثرى خلالها حياتنا الفنية بمئات من الأعمال واستطاع ان يغير مسار المسرح والدراما التلفزيونية في الخليج العربي وينشر نور الإبداع والمعرفة في كل مكان.
إبراهيم بحر لم يكن ممثلا عاديا، ممثل يقرأ النص ويخرج أمام الشاشة او يصعد على خشبة المسرح ليقول ما حفظه ويرجع إلي بيته، لا.. لقد كان من الفنانين الذين يحققون المعجزات في أدوارهم، كان بحر رحمه الله يقدم لنا فنا عالميا منفردا خاصة به قائما بذاته ويختلف عن سائر المدارس، وهذا ما يصفه “بروست” حين يقول: (بالفن وحده نستطيع ان نخرج من أنفسنا ونعرف ما يراه آخر غيرنا في هذا العالم، وبدل أن نرى عالما واحدا هو عالمنا، فإننا بفضل الفن نراه يتكاثر، وبقدر ما يكون لدينا فنانون كبار تكون لنا عوالم يختلف الواحد منها عن الآخر).
كان إبراهيم بحر فنانا عظيما يجسد من هذه الزاوية لحظة خاصة من الدفعة الحية، كانت أدواره تقاوم الشيخوخة والزمن، تختفي جميع المعوقات عندما يقف أمام الشاشة، ولا زلت اذكر مشهده مع ابني الفنان محمد في حلقة “طارش الحويلة” في مسلسل “برايحنا” حيث كان بحر يؤدي دور والد محمد، وطبيعة المشهد كانت تتطلب نوعا خاصا من الاستغراب، فالولد جلب “دلة القهوة” متأخرا إلى والده في الدكان بسبب ذهابه إلى “الليلوة” مع أصدقائه، وعندما عرف بحر السبب تحدث مع ابنه بأداء تمثيلي تميز بالخصب والغزارة، كان أداء يمكنني القول انه أذاب العالم ثم أعاد تشكيله حسب قوانينه.. قوانين إبراهيم بحر التي تنبع من أعماق الروح.
أما دوره في مسلسل “أولاد بوجاسم” دور عبدون، فكان شيئا خياليا لا يمكن للفنان العادي ان يقوم به أبدا، رؤى ومشاعر وحالات نفسية غير مألوفة وتقابل وتضاد وصور ودلالات حسية وحياة داخلية ونفسية، دورا كأنه العالم او كهف تكتنفه الأسرار وهو كذلك، فبالرغم من قلة مشاهده في المسلسل إلا انه كانت في يده مفاتيح وأسرار العمل وخط سير شخصياته، وكما يقول “بريخت” عن هذه النوعية من الفنانين: انه يبني ويمد الجسور بين أرواح الشخصيات بشكل غير عادي.
ونسير برحلتنا إلى الشخصيات التي أبدعها إبراهيم بحر رحمه الله، فنأتي إلى شخصية “بوزيد” في مسلسل “ملفى الأياويد” إلى جانب الفنان سعد البوعينين الذي كان يؤدي دور “بوعواد... شخصية بوزيد كانت مليئة بالأفكار الفلسفية العميقة التي زرعها المؤلف والشاعر على لسان بحر وقد أحسن اختياره، شخصية زاخرة بالأبعاد والغنى الفني العميق وتحتم على المشاهد متابعتها ومراقبتها حيث كان لها من المتعة والروعة والسحر. مصائب وشدائد كانت تقسو على “بوزيد” ولكنه كان يتعامل معها بالهتاف الودي و”الزهيريات” التي كانت كالطائر الذي يحط على الشبابيك ويطير في ثوان.
وفي أدوار الشر التي قام بها كان يقدم شخصيات مثل طائر الموت الأسود فوق الجبهات، وعلى فكرة يعتبر إبراهيم بحر رائدا من رواد أدوار الشر في الوطن العربي، فحينما يشاهده المتفرج “وكنت شاهدا بالمناسبة” كان البعض يهتف له والبعض الأخر يحاول أن يتعارك معه، فكنت حاضرا في منزل العائلة نشاهد عملا قديما وهو مسلسل “حسن ونور السنا” فبعضهم كان معجبا بأدائه، والبعض الآخر كان ينعته بالجنون، وهذه الازدواجية في نظري جعلت من الفنان بحر يقف على عتبة الفن الخالد والجاد.
وأخيرا إن دراسة لغة إبراهيم بحر في الفن ورصيده الهائل من الأعمال كفيل بالكشف عن سر خلود هذا الفن وبرسالته التي تصل إلى حد النبوة “فنيا طبعا”، وإحلاله المحل الملائم في تاريخ الفن العربي.