+A
A-

مسلسل الإبادة يتكرّر وسط صمت دولي مخجل

تكشف تقارير “مروعة” في سجلات الأمم المتحدة النقاب عن مذابح دموية نفذها جيش ميانمار في الفترة الواقعة بين شهر أكتوبر من العام 2016 وشهر أغسطس من العام 2017 ضمن عمليات تطهير عرقي نفذتها القوات المسلحة أو ما تسمى “تاتماداو” بالتنسيق مع ميليشيات عنصرية، ضد أقلية الـ”روهينغا” المسلمة. وحتى من استطاع الفرار من تلك المجازر لم يسلم من آثار تلك المجازر، فالتقرير الذي قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مجلس الأمن في شهر أغسطس من العام الجاري 2018، شمل تقارير مفزعة للأطقم الطبية الدولية وثقت تعرض ما يقارب 700 ألف من مسلمي الروهينغا لاعتداءات بدنية وجنسية وحشية.

لماذا كل هذا الصمت تجاه المجازر المروعة في “ميانمار – بورما” ضد المسلمين؟ فتقارير الأمم المتحدة لم تفلح في كبح جماح دموية الجيش في تنفيذ المجازر، ولا يزال التهديد واسع الانتشار واستخدام العنف الجنسي وإذلال وترويع ومعاقبة أقلية الروهينغا مستمرًّا ضمن استراتيجية تطهير عرقي ممنهجة لإجبار المسلمين على الفرار من وطنهم، فالأغلبية البوذية في ميانمار تنظر إلى المسلمين على أنهم مهاجرون وفدوا من بنغلاديش، ويعيشون بشكل غير قانوني، لهذا، فإن قوات ميانمار استخدمت سياسة “الأرض المحروقة” ضد القرى التي تسكنها غالبية مسلمة.

لنقترب من المناطق المتاخمة لبنغلاديش، ووفق المحلل الاستراتيجي بالمركز الدولي في بنغلاديش أختر فتكمياه، فإن آلاف اللاجئين الهاربين من جحيم التطهير العرقي في “أراكان” يسردون التفاصيل المخيفة والمروعة للمجازر التي وقعت هناك على أيدي المتطرفين البوذيين، فمسلمو الروهينغا يعانون من تمييز ديني وعرقي لا يمكن أن تنهيها مخيمات اللاجئين في بنغلاديش أو بيانات وتصريحات الاتحاد الأوروبي أو منظمة التعاون الإسلامي، لكنه يرى أن المطلوب الآن هو أن يكون لتكتل الدول العربية والإسلامية موقف موحد في الأمم المتحدة لتقديم رئيس بورما سين ثين وحكومته إلى المحاكمة الدولية كمجرمي حرب، وأن يتدخل مجلس الأمن مباشرة في ميانمار لوضع حد للمجازر وإلا فإنها ستستمر إلى أن يتم القضاء على المسلمين جميعًا وهذا ما تسعى إليه الحكومة البورمية.

 

مذابح على مدى 6 عقود

إن البحث عن صيغة حل لأزمة المسلمين في ميانمار، وتحديدًا في “أراكان” بالنسبة للأمة الإسلامية، ممثلة في منظمة التعاون الإسلامي، كما يرى فتكمياه، هو بمثابة رؤية الخنجر مغروسًا في القلب بالعين المجردة! فهناك كثير من الدلائل التي لا تخطئها العين تؤكد وجود مخطط عرقي خطير للقضاء على المسلمين يقوده رئيس ميانمار ثين سين ذاته وبدعم من أطراف دولية ومنها انجلترا ذات التاريخ السيئ في دعم البوذيين “الماغ” في مجازرهم ضد المسلمين، ويخطئ من يعتقد أن منظمة التعاون الإسلامي لا تعلم بهذه الحقائق الموثقة، والمسألة الأخطر أن الدول الإسلامية تركت المذابح تتوالى على مدى العقود الستة الماضية ولم تحرك ساكنًا!

 

مؤتمر “بنغ لونغ”

سؤال مهم يفرض نفسه لرؤية المشهد المروع من زاوية أخرى وهو :”هل لسياسة التطهير العرقي ضد المسلمين في ميانمار جذور تاريخية؟”، الباحث في الشؤون الآسيوية البريطاني ديفيد سورم يتحدث إلى “البلاد” لافتًا إلى أن العالم كله، بما فيه الدول الإسلامية، تعلم أن ما يحدث في ميانمار هو جريمة لإبادة عرقية مسلمة! ففي العام 1937 ضمت بريطانيا بورما مع “أراكان”، التي كان يقطنها أغلبية من المسلمين، لتكوّن مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس خلال الحقبة الاستعمارية، وعُرفت بحكومة “بورما البريطانية”، وفي العام 1942 تعرّض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل البوذيين “الماغ “ بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد من قِبَل البوذيين البورمان والمستعمرين البريطانيين وغيرهم راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم غالبيتهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشرّدت الهجمة الشرسة مئات الآلاف من المسلمين خارج الوطن، ولا يزال الناس - خاصة كبار السن- يتجرعون آلام مآسيها حتى الآن من شدة قسوتها وفظاعتها، ويؤرخون بها، ورجحت بذلك كفة البوذيين “الماغ”، وكانت سطوتهم مقدمة لما تلا ذلك من أحداث، وفي العام 1947 قُبيْل استقلال بورما عُقد مؤتمر في مدينة “بنغ لونغ” للتحضير للاستقلال، ودعيت إليه جميع الفئات والعرقيات باستثناء المسلمين “الروهينغا” لإبعادهم عن سير الأحداث وتقرير مصيرهم، وفي 4 يناير من العام  1948 منحت بريطانيا الاستقلال لـ “بورما” شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، ولكن ما إن حصل “البورمان” على الاستقلال حتى نقضوا عهودهم، حيث استمرت في احتلال أراكان دون رغبة سكانها من المسلمين الروهينغا والبوذيين “الماغ” كذلك، وقاموا بممارسات بشعة ضد المسلمين، وظل الحال على ما هو عليه من قهر وتشريد وإبادة.

 

عنصرية رئيس ميانمار

ويستند سورم  لتأكيد كلامه على تصعيد رئيس ميانمار ثين سين من لهجته تجاه أقلية الروهينغا المسلمة في البلاد داعيًا إلى تجميع أعضاء هذه الأقلية، الذين لا تعترف بهم الدولة، في معسكرات لاجئين أو طردهم من البلاد! خطورة هذا الكلام ليس في (وحشيته وعنصريته الرهيبة فقط)، بل لأن سين قاله بلهجة تحد ولا مبالاة! بل زاد قوله بعنصرية وقحة :”ليس ممكنا قبول الروهينغا الذين دخلوا البلاد بطريقة غير قانونية وهم ليسوا من أثنيتنا”!

وعلى وجه العموم، فإن الأمم المتحدة تعتبر الأقلية الروهينغا في ولاية أراكان إحدى أكثر الأقليات تعرضًا للاضطهاد في العالم ومع ذلك لا توفر لهم أي حماية تمامًا، كما تخلت عنهم الحكومات الإسلامية، أوليس خطيراً كلام رئيس ميانمار بأن الحل الوحيد هو إرسال الروهينغا إلى المفوضية العليا للاجئين لوضعهم في معسكرات تحت مسؤوليتها، ومن ثم تبعث بهم إلى أي بلد آخر يقبلهم؟! وبحسب تقرير للمفوضية العليا للاجئين، فإن الروهينغا يتعرضون في ميانمار لكل أنواع “الاضطهاد” ومنها العمل القسري والابتزاز والقيود على حرية التحرك وانعدام الحق في الإقامة وقواعد الزواج الجائرة ومصادرة الأراضي وغيرها.

 

دور الحكومات الإسلامية

يزعم مسؤولون بنغاليون أن اتفاقيات عُقدت مع حكومة ميانمار من أجل تحسين أوضاع الروهينغا، إلا أن تورطهم في قضايا جنائية في الأحداث الأخيرة أثار حفيظة البوذيين في المنطقة فاعتدوا عليهم.. محي الدين خان، طبيب متطوع ضمن فريق الخدمات الإنسانية التابع للاتحاد الأوروبي التقته  “البلاد” في العاصمة البغلاديشية “دكا” يشدد على أنه ليس هناك ما يبرر استهداف المسلمين في ميانمار، وأن ما يجري تجاههم هو تطهير عرقي متعمد من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة التي تتعامل مع المواطنين المسلمين في ميانمار وكأنهم وباء، ولكنهم في حقيقة الأمر يخافون من انتشار الإسلام في تلك البلاد بعد أن قامت دولة إسلامية في أراكان، وأصبح المسلمون يشكلون نسبة 15 % من عدد سكان ميانمار، لذلك يضطهد البوذيون البورميون المسلمين وينهبون خيراتهم ويحاصرونهم اقتصاديًّا وبشريًّا دون أن تتخذ السلطات البورمية أية إجراءات لحمايتهم،  بل حدثت عمليات تهجير قسري جماعي للمسلمين منذ العام 1962 بنسب متزايدة، هذا عدا التضييق عليهم وعلى المساجد التي هدم بعضها وتحول بعضها الآخر إلى دور للملاهي.

ويعبر محي الدين خان عن الأسف من أن دور الحكومات الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي شبه غائب فيما عدا بعض المساعدات الإنسانية المحدودة التي لا تتناسب وحجم الاعتداءات والجرائم التي تمارس ضد المسلمين في ميانمار، وللأسف، هناك شبه غياب  من المنظمات الإقليمية والدولية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، وإننا من هذا المنبر ندعو الأسرة الدولية ومنظماتها العاملة في مجال حقوق الإنسان وكل المعنيين بالقضايا الإنسانية للتحرك بصورة عاجلة و فاعلة لحماية المواطنين المسلمين في ميانمار من اضطهاد البوذيين البروميين خاصة من سفاحي الباغ البوذيين الذين يمارسون أبشع الجرائم ضد الإنسانية وسط المسلمين هناك.

منظمة المؤتمر الإسلامي

ويستغرب ممثل مسلمي الروهينغا في بنغلاديش راغب حسين من عدم وجود تحرك فعال من جانب الدول العربية والإسلامية السبعة والخمسين في منظمة التعاون الإسلامي تجاه مسلمي ميانمار، فممثلي المسلمين الروهينغا يطالبون المنظمة بالتالي:

*دعوة مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة لبحث أوضاع المسلمين في ميانمار ووضع حد للمجازر وتقديم مرتكبيها إلى المحاكم الدولية كمجرمي حرب، ودعوة كل من منظمة التعاون الإسلامي وهيئة كبار العلماء والأزهر الشريف لمطالبة الأمم المتحدة بالتدخل من خلال بيان موحد مشترك.

*التنسيق مع دول نمور آسيا والبلدان التي تربط الدول الإسلامية بعلاقات اقتصادية وبروتوكولات كالصين وسنغافورة وماليزيا للضغط على حكومة ميانمار من جهة، وتقديم المساعدات العاجلة للمنكوبين.

*استصدار قرار أممي من خلال ممثليات الدول العربية والإسلامية في مجلس حقوق الإنسان العالمي بعد إدانة السلطات في بورما، لإرسال بعثة من الأمم المتحدة لحفظ السلام ولحماية المسلمين.

 

“البورمان”... قبائل شرسة

في بورما “ميانمار” عدد السكان يزيد على 55 مليون نسمة، ونسبة المسلمين في هذا البلد لا تقل عن 15 % من مجموع السكان نصفُهم في إقليم أراكان ذي الأغلبية المسلمة، ويختلف سكان بورما من حيث التركيب العرقي واللغوي بسبب تعدد العناصر المكونة للبلاد، ويتحدث أغلب سكانها اللغة البورمانية ويطلق على هؤلاء “البورمان” وأصلهم من التبّت الصينية وهم قبائل شرسة، وعقيدتهم هي البوذية، هاجروا إلى “بورما” في القرن السادس عشر الميلادي ثم استولوا على البلاد في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وهم الطائفة الحاكمة، وهناك أيضًا الـ” شان وكشين وكارين وشين وكايا وركهاين - والماغ” وينتشر الإسلام بين هذه الجماعات، والمسلمون يعرفون في بورما بـ “الروهينغا”، وهم الطائفة الثانية بعد “البورمان”، ويصل عددهم إلى قرابة الـ 10 ملايين نسمة يمثلون 20 % من سكان بورما البالغ عددهم أكثر من 50 مليون نسمة، أما منطقة “أراكان” فيسكنها 5.5 مليون نسمة حيث توجد كثافة عددية للمسلمين يصل عددها إلى 4 ملايين مسلم يمثلون 70 % من سكان الإقليم.

ويتعرض المسلمون في “أراكان” للطرد الجماعي المتكرر خارج الوطن مثلما حصل عقب الانقلاب العسكري الفاشي حيث طرد أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلاديش، وفي العام 1978 طرد أكثر من 500.000 أي نصف مليون مسلم يعيشون الآن في أوضاع قاسية جدذًا، مات منهم قرابة 40.000 من الشيوخ والنساء والأطفال حسب إحصائية وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وبالطبع حياتهم محاطة بالمشكلات مع البنغاليين الفقراء وسط موارد محدودة، وفقر بلا حدود، وكل هذا لا يعلم عنه المسلمون في العالم شيئًا، وإن علموا وقفوا مكتوفي الأيدي.

وفي العام 1988 طُرد أكثر من 150.000 مسلم، بسبب بناء القرى النموذجية للبوذيين في محاولة للتغيير الديموغرافي، وأيضًا في العام 1991 تم طرد قرابة 500.000 أي نصف مليون مسلم، وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقامًا من المسلمين، لأنهم صوتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب الوطني الديمقراطي NLD المعارض، ومن الإجراءات القاسية للنظام القائم كذلك إلغاء حقّ المواطنة للمسلمين؛ حيث تم استبدال بطاقتهم الرسمية القديمة ببطاقات تفيد أنهم ليسوا مواطنين، ومن يرفض فمصيره الموت في المعتقلات وتحت التعذيب أو الهروب خارج البلاد.