+A
A-

“ما في البلد غير هذا الولد”... إنسان صالح لكل زمان ومكان

تنشر “البلاد” على حلقات كتاب نبيل آل محمود “قبل أن تتهاوى”، والذي يتضمن مجموعة دروس عن الممارسات الادارية المتبعة بالقطاعين العام والخاص.

الكتاب يقدم حقائق وممارسات تفاعلية في علمي الاجتماع والسيكولوجيا.

ويُعالج تحديات الأداء والإنتاج والإنتاجية والسلوكيات والممارسات الإيجابية والسلبية والأساليب الإدارية المتعددة وآليات قياس الأداء والتنافسية والمخاطر والقيم المؤسسية وأخلاقيات المهنة.

ويترك للقارئ مؤشرات الحلول التي تقوده للتوصل إليها من خلال سيناريو الموضوع ذاته؛ وذلك من أجل تدارك ما يمكن تداركه قبل أن تتهاوى، وهو سر عنوان الكتاب.

 

لنهيئ العوامل المحفزة لشحن طاقات العاملين

الاجتماعات وصنع القرارات

الاجتماعات.. هي وسيلة من وسائل الاتصال بالمؤسسة؛ من أجل مناقشة موضوع ما أو متابعة مهام معينة أو إقرار مشروع بعينه أو محاولة تطوير وضع ما أو.. .

لذلك تولي المؤسسات المتطورة اهتماما عظيما لاجتماعاتها وعلى جميع المستويات العليا والوسطى والدنيا بما في ذلك اجتماعات فرق العمل المعنية بالتطوير والتحسين انطلاقا من سياسة أسفل - أعلى (Bottom-Up) التي تعتمد عليها المؤسسات في تغذية الإدارة العليا بالمقترحات التطويرية وما إلى ذلك لتحسين الإنتاج والإنتاجية وما يتصل بهما من مهام وأنشطة مما يساعد في عملية صنع القرار؛ الأمر الذي يصب في النهاية لصالح المؤسسة والعملاء.

ويرى العديد من الموظفين - خاصة المتدنّية وظائفهم - بأن مجرد دعوته لحضور اجتماع من هذا النوع يعطيه شعورا بالأهمية ودافعا لتقديم كل ما باستطاعته وحماسة لبلوغ الأفضل. إلا أننا لو راجعنا أنفسنا لوجدنا أن بعضنا لا يميل لإشراك العاملين معه في عملية صنع القرار مفضلا التفرد به، وبعضنا الآخر يشركهم في تزويده بالآراء والمقترحات، ثم يخالفها وكأنها لم تكن أو أننا في كثير من الأحيان نُهدر أوقات الموظفين في اجتماعات لا طائل منها، حيث لا تحضير مسبق للاجتماع من جانب الموظفين، أو غياب أهداف دقيقة للاجتماع، أو عدم إعداد جدول أعمال منظم (أجندة)، أو عدم الالتزام بفترة محددة للاجتماع، أو سيطرة بعض الموظفين على جلسات الاجتماع وتراجع الآخرين.. وهكذا.

وقد تنبّهت المؤسسات المتقدمة لتلك السلبيات وعملت على تحاشيها للاستفادة القصوى من اجتماعات موظفيها ولتهيئة الجو للجميع؛ من أجل المساهمة الفاعلة في كل اجتماع، ومن ثم لتكون الاجتماعات فرصة عظيمة لتنشيط الموظفين وإثارة حماستهم وحصد إبداعاتهم. “إن الاجتماعات التي تدور بين فرق تضم موظفين من شتى الوظائف تعتبر أكثر الطرق فاعلية لإشراك الموظفين بكافة مستوياتهم ومن كافة أنحاء المؤسسة في عملية صنع القرارات” بيتر ايكونومي.

ولكي نُبرز الموضوع من منظور عملي سنتعرض لبعض تجارب المؤسسات المتطورة غير التقليدية:

• شركة Solar Communication الواقعة بولاية ألينوي: أقدمت على إغلاق تشغيل الطباعة لمدة يوم كامل، ثم جمعت الموظفين المنتظمين البالغ عددهم 320 موظفا بإحدى الكليات المحلية لقضاء يوم من الانطلاق الفكري. وعند انقضاء الكلمات التحفيزية للإدارة العليا، تم تقسيمهم إلى مجموعات بحسب الأقسام؛ لمناقشة وتقييم المشكلات المتعلقة بالموظفين ومشاكل الإنتاج والتسويق و.. وقد كانت المحصلة هي الخروج بقائمة تضم 50  مشكلة أساسية تتصل بجوانب مختلفة، وذلك من اجل توجيهها بواسطة فريق عمل.

• شركة Child Care Centre T.L.C. الواقعة بولاية ويسكونسن: تدعو الموظفين للتجمع كل شهرين في هيئة جلسات “تظلُّم” أثناء تناول البيتزا. خلال الساعة الأولى من الجلسة يُفتح باب النقاش لنقد أي شخص وأي شيء بما في ذلك الإدارة، وخلال الساعة الثانية من الجلسة يُناقش الموظفون حلولاً للمشكلات التي طُرحت أثناء الساعة الأولى، ومن ثم تعمل الإدارة العليا على تطبيقها والاستفادة منها.

• شركة ليندا مايلز آند أسوشيتس، وهي شركة استشارات طبية للأسنان في فرجينيا: يقوم الأطباء والموظفون بالتبرع بدخل نصف يوم شهريا لصندوق التبرعات الصغير الذي يقوم بتمويل رحلاتهم لحضور اجتماعات مهمة خارج موقع العمل وكذلك الحفلات التي يتم تنظيمها في موقع العمل، حيث تعمل تلك الحفلات على تنشيط الموظفين وتمنحهم فترات استراحة من روتين العمل اليومي بالشركة وفي أماكن لا يمكن إزعاجهم فيها بالزوار أو الزبائن أو المكالمات الهاتفية أو.. .

• شـركة Air Net، وهي شـركة شحن جوي في أوهايو: تعقد الشركة اجتماعات منتظمة لفرق الموظفين مرة كل ستة أسابيع، وقبل انعقاد الاجتماع يُطلب من أعضاء الفرق بتحويل مشاكل التشغيل لرئيس الاجتماع، الذي يقوم بدوره بعرضها على المجموعة للبحث عن حلول لها، ويذكر مدير التشغيل بروس بيكون “يستفيد أفراد الفرق من قراراتهم خلال هذا المنتدى. والنتيجة الجديرة بالملاحظة هي روح التعاون بين العمليات وخدمة الزبائن”.

• شركة جنرال الكتريك بايامون، وهي معنية بتصنيع منتجات الإضاءة في بورتوريكو: يقوم الموظفون بتنظيم أنفسهم على شكل فرق مسؤولة عن وظائف محددة في المصنع مثل التجميع والشحن و.. حيث تتكون الفرق من موظفين من جميع أنحاء المصنع بحيث تتاح الفرصة لممثلي الإدارات المختلفة لمناقشة مدى تأثير التغييرات أو التحسينات المقترحة على دورهم في التشغيل. من جانب آخر يقوم العمال غير المنتظمين - المنتسبين بالساعة - بعقد اجتماعات خاصة بهم على ألاّ يتدخل المستشارون أو المديرون إلاّ بناء على طلب الفريق. وقد أثمر هذا الأسلوب عن نجاح متميز حيث حقق المصنع بعد مرور عام واحد 20 % زيادة في مستوى إنتاجية الموظفين مقارنة بنظرائهم في الولايات المتحدة.

من هذا المنطلق، ولكي لا نجعل الموظف يفرح بقوله “عندي اجتماع” كما يحدث مع الكثيرين، ولكن دون جدوى من هذا الاجتماع، لنعمل على خلق أساليب جديدة متطورة تناسب طبيعة مؤسساتنا وموظفينا وبيئتنا، ولنهيئ العوامل المحفزة لشحن طاقات العاملين مع ضرورة زرع الثقة في نفوسهم للانطلاق بأفكارهم ومقترحاتهم وإبداعاتهم.. ثم لنر النتيجة.

 

الإيمان بمبدأ التخصصية مطلوب بإلحاح إن أردنا النجاح

“الجوكر” ومبدأ التخصصية

“ما في البلد غير هذا الولد” مقولة نرددها عندما نجد صانع القرار - أيا كان - يسند لشخص معين مهمات كثيرة ومسؤوليات متعددة بالرغم من تفاوتها واختلاف طبيعتها. هـذه المقولة تمثل تساؤلا حول هذا الشخص وحول أسباب اختياره.. بمعنى هل هذا الشخص كفء وقادر على إنجاز كل المهمات المناطة به أو المسؤوليات الموكلة إليه أو...؟ وهل هذا الشخص هو الوحيد صاحب الكفاءة والقدرة والمهارة التي تؤهله لشغل المواقع التي وضع بها ليكون له الحضور والتميّز المنشـود الذي لا يمتلكه سواه؟

تلك تساؤلات مشروعة، ربما تكون مردودة على صاحبها وربما لا تكون كذلك في حال إثبات صحتها بقليل من البحث في سـيرة “الشخص المختار” من حيث التخصص والمؤهل والخبرة والأداء والسلوك و.. حيث لا يوجد إنسان صالح لكل زمان ومكان، وليس هناك رجل أو امرأة لكل العصور، بل هناك شخص يناسب مجالا معينا أو وظيفة واضحة الأهداف أو مهمة مرسومة المعالم أو مسؤولية محددة الإطار.. وهو ما يطلق عليه مبدأ “التخصصية”.

لكننا كثيرا ما نرى في حاضرنا - وهو أمر يكرر في مجالات مختلفة - أشخاصا يتم انتقاؤهم مراراً من بين الكثيرين ممن هم في مستواهم إن لم يكن أكفأ منهم لتناط بهم مسؤوليات إما وطنية أو أهلية او اجتماعية أو مؤسسية أو..  وكأن البلد قد خلت ممن يحاكيهم أو يفوقهم فكراً او علماً أو خبرةً او كفاءةً. وهو ما يحدث أيضا في العديد من المؤسسات العامة والخاصة التي غالبا ما تركز اهتمامها على بعض منتسبيها لإشراكهم في معظم فعالياتها ولجانها ومجالسها و.. ثم تنتظر منهم بطبيعة الحال المساهمة الفاعلة والإتقان في كل تلك المواقع.. لكن كيف؟ فلكل شخص إمكانات وقدرات محدودة وليس بالإمكان، بل من الاستحالة لأي شخص أن يلعب دور “الجوكر” في كل مضمار وبإتقان.

شخصيا نعلم أنه في بعض المؤسسات يتم الزج ببعض الإداريين؛ للمساهمة في أعمال اللجان أو الاجتماعات أو الندوات أو.. لمجرد أنهم يشغلون مناصب عليا وذلك فقط من أجل رفع مستوى التمثيل للمؤسسة في تلك الفعاليات دون امتلاك هؤلاء لأي إمكانات متميزة وإبداع كي يثبتوا حضورهم.

وفي حالات أخرى، هناك مؤسسات تدفع بموظفين يحملون مؤهلات أكاديمية عليا للمشاركة في إنجاز مهام أو تحمل مسؤوليات لمجرد إبراز مستوى موظفيهم الأكاديمي أمام الآخرين، لكن دون توافر القدرات التي تمكنهم من أداء دورهم المرتجى، حيث اختلاف التخصص ونقص الإلمام بالموضوع وغير ذلك.

ويدرك القارئ وجود كثير من الشخصيات من ممثلي الإدارات العليا أو الوسطى في مؤسسات عدة ممن يتكرر حشرهم في مجالس إدارات العديد  من المؤسسات دون الرجوع إلى مؤهل أو خبرة أو حتى سيرة الشخص ذاته من حيث السلوك والأداء والمعاملة و.. .

نعتقد بأن الحقبة الماضية قد حفلت بكثير من تلك الأمثلة حتى جعلت من المقولة سالفة الذكر تتردد كثيرا من قِبَل الكثيرين. أما في زمن دولة المؤسسات والقانون والإصلاح الإداري وتكافؤ الفرص والعدالة والمساواة، فيتوجب مراعاة ذلك والتخلص من تبعات الماضي بعدم التمادي فيه.

إن الإيمان بمبدأ “التخصصية” مطلوب بإلحاح إن أردنا النجاح والتطور والتقدم للأفضل الذي نأمل، لكن بشرط استيعاب مفهوم “التخصصية” كما ينبغي، وليس كما جرى عليه العرف عند البعض؛ بمعنى ليس “تخصصية البعض في المشاركة بكل مجلس إدارة يُؤسَّس، وكل لجنة عليا تُشكَّل، وكل اجتماع يُعقَد، وكل...” فذلك لا يدعى تخصصية، ولكن احتكار أو أنانية أو انحياز، بل يدعى مبدأ “اللعب بالجو كر” في غير حينه، لذلك لا يكون له في العادة أي فاعلية؛ لأنه ببساطة لا يتقن أداء كافة الأدوار في جميع المواقع.

وهنا يتحتم علينا التنبه لوجود العناصر الشابة والدماء الجديدة المتدفقة التي لم تُلوَّث بَعْد بجراثيم المحاباة والمصالح الذاتية والفساد الإداري وظلم الآخرين و..  دماء لم تصبح غليظة جامدة كغيرها بَعْد، والتي كافح أصحابها من خلال العلم والعمل وتطوير الذات ولكـن!! لذا نشدد على أهمية دور الشباب في هذه المرحلة وعلى ضرورة تهيئة الفرصة أمامهم للقيام بدورهم الذي تعطل بما فيه الكفاية؛ كي لا يأتي يوما نندم فيه على استهلاكنا (سلباً) لأشخاص لم يقدموا لنا شيئا كما قدموا لأنفسهم ولم يتركوا لنا بصمة تشهد على كفاءتهم وإبداعاتهم، ونتحسر بذات الوقت على عدم استغلالنا (إيجابا) لثرواتٍ كانت يوما ما شابةً يانعــة متفجـرة قد هرمـت مع مرور الزمن وتلاشت دون أن يلتفـت إليها ذو عقـل وبصـيرة. وطبقـا لــ John Maxwell فـي كتابــــه Failing Forward يقـــول “استوعب الفوائد الإيجابية للخبرات السلبية  Grasp the positive benefits of negative experiences”.

وإن كنا نرفض مبدأ “اللعب بالجوكر” وندعو لتحكيم مبدأ “التخصصية”، بل ونتطلع لليوم الذي نرى فيه رجالا يشغلـون مواقع قادرين على الأداء فيها بإتقان، فان الله عز وجل يدعونا الى الأمر ذاته، حيث قال الرسول الكريم “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه”.