+A
A-

قراءة نقدية في كتاب

واجهتني مشكلتان أساسيتان وأنا أقرأ كتاب البروفسور باقر النجار، الأولى قرب الكاتب، والثانية متعلقة بكونك تكتب وأنت القادم من أحد مجالات العلوم الطبية. فاللغة المكتوبة ومفاهيمها تبدو في بعض الأحيان غامضة أو باستخدام أحد تعابير بروفسور النجار عصية على الفهم السريع. إلا أن ما أعانني على تخطي ذلك أنني في إحدى السنوات التي انتظمت فيها بالدراسة في جامعة هارفرد قبل قرابة أربع سنوات كان مطلوبا مني أن أكتب بحثا عن تأثير البيئة الاجتماعية على الأمراض أو المرض، وقد وجدت نفسي أقرأ في كتابات عالم الاجتماع الأميركي تالكوت بارسونز عن نظرية الفعل الاجتماعي والوظيفية البنائية. وهو كاتب قد اتسمت لغته بقدر من الصعوبة، كما بدت مصطلحاته الكتابية جديدة على القارئ، إلا أن توظيفه لتخصصة الأساس في علوم الأحياء في المجال الاجتماعي قد قرب فهمي لما كتبه. وهو الأمر الذي أعانني في نهاية الأمر على أن أتخطى حاجز القرب وطبيعة التخصص. وقد حرصت على أن أنقل للقارئ أفكار الكاتب وكلماته كما جاءت في كتابه.

البروفسور باقر النجار في سطور

اشتغل البروفسور النجار بدراسة مجتمعات الخليج لأكثر من أربعة عقود، أنتج خلالها لا يقل عن مئة وعشرين بحثا والعديد من الكتب التي تناولت في جلها مجتمعات الخليج العربي، وهو بحق أحد أبرز علماء الاجتماع العرب والخليج وأكثرهم عمقا في الإنتاج، كما كان مساهما في جل تقارير اللأمم المتحدة عن التنمية الإنسانية في العالم العربي، وعضو الكثير من لجانها الاستشارية عن المنطقة العربية، كما كان عضوا في مجلس الشورى ورئيسا لقسم العلوم الاجتماعية في جامعة البحرين وعميدا لكلية الآداب فيها. وكان كذلك أستاذا زائرا في جامعة أكستر في بريطانيا، وباحثا زائرا في مركز دراسات الشرق الأدنى بجامعة هارفرد.

لماذا يكتب؟

بخلاف الكثيرين في المنطقة، فقد احترف البروفسور النجار الكتابة عن المنطقة؛ كونه جزءا منها، فهو في ذلك مدرك للكثير من دقائقها الصغيرة، ويرسم في مخيلته صور أفرادها وتوقعات سلوكهم ونمط علاقاتهم.

وإذا ما كان كتاباه السابقان: الحركات الدينية في الخليج العربي والديمقراطية العصية في الخليج العربي قد مثلا مدخلا مهما في فهم قوى وديناميات التغير وجماعاته في مجتمعات الخليج، فإن كتابه الأخير الصادر عن دار الساقي هذا العام 2018، والذي حمل اسم “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي” يمثل محاولة على درجة كبيرة من العمق والتحليل. فالكتاب من حيث موضوعاته كما هي غزارة معلوماته وعمق مداخله التحليلية يمثل بحق محاولة جديدة في الدراسات السوسيولوجية على مستوى المنطقة عموما. فعنوان الكتاب في حد ذاته يختصر حالة الحداثة والتنمية في عموم المنطقة العربية وعسر ولوجنا إليها.

وفي نظرة تأملية سريعة على عمليات التنمية في المنطقة العربية نجد أن العالم العربي هو الأقاليم القليلة في العالم التي اتسم التحديث فيها بقدر من التلكؤ إن لم تكن الانتكاسة، أي أن عمليات التنمية فيها وبخلاف أقاليم كثيرة في العالم: في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية لم تخبر عمليات التنمية فيها نموا تراكميا أو أن تحدث اختراقا مهما. هذا إذا ما استثنينا تجربة دبي في ذلك، بل إن قدرا من التلكؤ والنكوص قد اتسمت به لسبب قد يكون أحدها غياب الرؤية والتخطيط الإستراتيجي، وثانيا تعطل تطور الدولة كمؤسسة قادرة على قيادة التغيير وإحداثه. وفوق هذا وذاك غياب ثقافة التراكم في العمل المؤسسي، وهو غياب قاد لأن يبدأ كل قادم جديد من نقطة الصفر.

يعتبر كتاب البروفسور النجار عملا علميا كبيرا، وإذا ما كان قد تمنى أن يكون عمله بمصاف أعمال مهمة لحليم بركات عن المجتمع العربي وعمل حنا بطاطو الضخم عن المجتمع العراقي، فإن عمله في ذلك لا يقل قيمة وإضافة علمية وفهما لمجتمعات الخليج العربي عن أي أعمال أخرى ذات إضافة علمية عن المجتمع العربي.

ويقع الكتاب في اكثر من خمسمئة صفحة، موزعة على سبعة أبواب، وثلاثة عشر فصلا، يناقش فيها الكاتب قضايا كثيرة بعضها قد خضع لقدر كبير من التغير وبعضها الآخر يقاومه.

ويستهل النجار كتابه بالقول “لقد أخترت لكتابي هذا عنوانا حمل اسم “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي، وهو امتناع ليس لسببب خصوصيتها الثقافية أو طبيعتها القبلية أو تفردها السياسي أو نتيجة لموقعها الجغرافي الذي يقع في ناحية الجنوب الشرقي من العالم العربي، وإنما هي ممتنعة لأن التغيير والتحديث لا يأتي في جوانبه ومجالاته المختلفة متسقا وبذات المستوى. فالتحديث لا يرتبط فحسب في جوانبه المادية، وإنما هو كذلك كما يقول عالم الاجتماع الألماني الرائد ماكس فيبر لابد أن يسبقه تغيير مهم في جوانبه اللامادية التي تحكم توظيفاتنا لماديات الحداثة ونتاجاتها، إذ يؤكد النجار أن الجوانب اللامادية في الثقافة هي عناصر على درجة كبيرة من الممانعة للتغيير؛ كون بعضها يتصف بارتباط علائقي بالبناء الاجتماعي للقوة في المجتمع، كما هي ذات ارتباط في بعضها بمعتقدات الناس الثقافية والروحية.

والتغير في اللاماديات كما يقول النجار لا تأتي عناصره سريعا أو قد لا تأتي إلا بعد عقود من الزمان أو أنها قد لا تأتي كما يشتهي البعض ويبغي. والحداثة لها شروط اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية لا يعتقد أنها مكتملة لدينا. وهي شروط ونتيجة لممانعات الداخل وجماعاته وممانعات الخارج وقواه المؤثرة، قد أصبحت ممتنعة أو متلكئة التشكل. وهو تلكؤ ستحمل المنطقة جزءا من مصاحباته لسنوات إن لم يكن عقود قادمة لتجعل من صعودنا نحو الحداثة ممكنا، لكن ضمن شروط قد تحمل قدرا من اللا توازن، أو أنها حداثة نتيجة لتردد استوائها قد تقود إلى بعض الاختلالات بين قوى الداخل على أهدافها أو مع قوى الخارج لمحاولة عرقلتها أو الحد من تسارعها أو لربما إفشال استكمالها.

فالحداثة بالنسبة للنجار هي عملية كلية، وهي تمثل ضرورة سياسية واجتماعية ودينية وثقافية قبل أن تكون اقتصادية. وإن الصعود الآسيوي: في اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين وماليزيا ما هو إلا نتيجة لهذا التوازن الكلي في عملياتها. وإن الخيبات التي جاءت على المنطقة العربية ما هي إلا نتيجة لحالة اللا توازن التي جاءت على عملياتها أو الخوف من نتائجها أو تعطيل حدوث بعضها لأسباب قد يكون بعضها اجتماعيا أو دينيا أو سياسيا.

فالحداثة بالنسبة إليه تمثل تحديا لا يمكن الهروب منه إلى الماضي. فالماضي يبقى ماضيا لا يحمل حلول الحاضر، ولا يمكن أن يكون في أنماطه بديلا مستقبليا. بل إن كل ذلك يتطلب منا كعرب الدخول في هذا التحدي وتحمل تبعاته والصبر على نتائجه وإن جاءت في غير صالح البعض أو الجماعات. وهي كعملية لا نستطيع أن نختار منها الجزئية التي تريحنا دون جزئياته الأخرى أو أن نمشي في مسارها الاقتصادي دون المسارات الأخرى التي بهما تكتمل الحداثة ودونهما تتلكأ عملياتها أو تتشوه. وإن النموذج الصيني يبقى في ذلك نموذجا ذا خصوصية قد لا تتكرر في كل المجتمعات والثقافات. وهو يبقى مع ذلك متعرضا لضغوطات في الداخل والخارج يحاول أن يتكيف مع بعضه إلا أنه يبقى نموذجا قد يجبر مع ذلك لأن يسير في المسارات التي قد لا يرغب فيها.

يقول النجار في مناقشته لحالة التغير في منطقة الخليج “إن التغيرات التي تحدث في مجتمعاتنا أو من حولنا تحدث قدرا من الضغط والتوتر، وهو توتر يتطلب قدرا مهما من المرونة والقدرة على التكيف، وهي عملية لا يمكن أن تتم إذا ما أخذت هذه التغيرات على أنها دخيلة أو غريبة ولابد من وقفها وإنما من جهة أن هذه التحولات تمثل تحد لا يمكن مواجهته إلا بالأخذ بالكثير من أسبابه، وقد تكون البدايه له بتبني خطوات تكيفية تفرض علينا قدرا من التغير الشخصي والتغيير المؤسساتي، وقدرا من التغيير في الرؤى والآليات التي نعالج بها مشكلاتنا أو الطريقة التي ندير بها مؤسساتنا، بها قد نستطيع أن نتجاوز بعض الإخفاقات والتلكؤات.

إن هناك من يعتقد أن ضغوط التحولات التي نتعرض لها ما هي إلا جزء من موجة جديدة مؤقته أو عاصفة غبارية تأتي وتغادر وقد تأتي بدرجة أخف وقد لا تأتي. إلا أننا نعتقد أن ما نتعرض له جزء من تغيرات عامة شاملة لا تصيب منطقتنا؛ لأنها مستهدفة بذلك، وإنما لكوننا جزءا من نظام كوني مُحكَمْ حدد موقعنا فيه تجاوراتنا الجغرافية وأهمية النفط والغاز للاقتصاد العالمي . إن المنطقة كما هو العالم قد أصبح في خضم مرحلة جديدة من التغيرات والتحولات تحدث شعورا بالاضطراب أو اضطرابا حقيقيا قائما بالفعل وما هذا الاضطراب الذي نراه في الداخل الأميركي وبين الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية إلا أحد تمثلاته وإرهاصاته.

وتهيمن فكرة التغيير والممانعة تقريبا على جل أجزاء الكتاب، فهو في الباب الأول منه يناقش التغيرات التي جاءت على الدولة والفاعلين فيها كما على المؤسسات القائمة بمهامها. وفي ذات الوقت يرى أن الممانعات تخلقها الكثير من القوى والاجتماعية والسياسية وما يسميها بالتضامنيات المشكلة للدولة أو المؤثرة فيها، وهي قوى باتت في بعضها تصوغ هيكل الدولة ووظائفها. كما ويناقش التحولات والممانعات التي جاءت على هيكل التراتبيات الاجتماعية. وهي تراتبية كما يرى، ليس مؤثر في تشكيلها المعطى الاقتصادي، بل تحكمها متغيرات ومعطيات أثنية وقبلية واجتماعية. وهي متغيرات تعيد تشكيل الحالة التراتبية وفق مواقعها و تأثيراتها داخل المجتمع.

أما في الباب الثاني، فيناقش هيكل السكان وموقع العمالة في سوق العمل وطرق استقدامها وتأثيراتها على الهوية وتحديدا في أوساط الأجيال الجديدة منها. تلك الأجيال التي ولدت ونشأت في مجتمعات الاستقبال، والتي ارتبطت بهذه المجتمعات من خلال العمل ومن خلال مواقعها في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي لمجتمعات الخليج.

وفي الباب الثلث الذي يقع في ثلاثة فصول يناقش النجار التحولات التي جاءت على موقع المرأة وأدوارها في المجتمع وتحديدا مواقعها في العمليات الإنتاجية والعملية السياسية وقضايا تمكين المرأة.

ويخصص الباب الرابع لموضوعين مهمين هما التعليم العالي في المنطقة، وقدرة جامعاتنا الخليجية على صياغة، وتشكيل الأجيال الجديدة من الشباب وتأثير كل ذلك على العمليات الاقتصادية والاجتماعية. واتصالا بذلك يناقش الكتاب مسيرة التنمية البشرية وتحدياتها في المنطقة تلك التحديات التي يرى أولها متمثلا في قدرة مجتمعات الخليج على الانتقال من طابعها الخدمي الرعائي إلى طابعها التنموي الإنتاجي. أما ثاني هذه التحديات، فيتمثل ليس في قدرة هذه المجتمعات على الاستمرار في تقديم هذه الخدمات كما وكيفا، وإنما في الارتقاء بها وابتداع الجديد في مجالها. أما ثالث هذه التحديات، فيراه في قدرة المؤسسات القائمة على ابتداع الحلول للمشكلات المتراكمة أمام النظام والناس والمجتمع، وهي مشكلات في بعضها ظرفي، إلا أن بعضها الآخر بنيوي.

وأخيرا يعيد النجار الفكرة التي بدأ بها كتابه، وهي تحدي قدرة مجتمعات الخليج على التكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة في مجال التكنولوجيا والاقتصاد والسياسية ولربما فوق هذا وذاك المشكلات التي قد تخلقها جماعات سكانية تفوق في أعدادها في بعض مجتمعات المنطقة ما يتجاوز النصف ولربما ما يفوق ذلك كثيرا.

ويناقش الباب الخامس وقع العولمة على مجتمعات الخليج من خلال مقاربة موضوعي الأسرة والمدينة، وهي تحولات إعادة تشكيل الإنسان في المنطقة من حيث صورته لذاته وعلاقته بمجتمعه وبالآخرين.

ويخصص الكاتب الباب السادس لمناقشة موضوع الهوية وتشكيلاتها وعلاقتها بالحالة التي بات الناس عليها والمجتمع. كما يربط كل ذلك بقضايا المواطنه وتطورها في المنطقة.

وفي الباب السابع، يناقش النجار قضايا الثقافة وتحدياتها التي يرى أنها في بعضها تأتي من داخل المجتمع ذاته ومن القائمين بالفعل الثقافي ومن الخارج من خلال تأثيرات الأنماط الثقافية التي باتت العولمة تفرضها على الداخل. وهذه التأثيرات بدت واضحة في الأنماط الجديدة المتشكلة من الثقافة وما يسميه الكاتب”بالمثقفين الجدد” الذين يتسمون بضعف بنائهم الثقافي وجهل بمداخلها الحديثة وبسطحية منتوجهم الثقافي. وترتبط الثقافة لديه بما يسميه بحقيقة التيار الثقافي القائم في المنطقة، والذي يراه النجار أقرب إلى أن يشكل جيوب ليبرالية منها أن يكون تيارا يضبط إيقاع المجتمع ويحدد اتجاهات أفراده.

وأخيرا إذا ما كان لنا كلمة أخيرة نقولها، فإن الكتاب يمثل إضافة نوعية مهمة في مجال الدراسات السوسيولجية في المنطقة، وهو عمل يقف في مصاف أعمال سوسيولوجية رئيسة في المنطقة العربية. وهو كتاب يهم الفاعلين السياسيين كما يهم الباحثين والمهتمين بفهم آليات الفعل في المنطقة والديناميات التي تعمل في إطارها القوى الاجتماعية والجماعات. ملاحظتي الوحيدة عن الكتاب أنه قد خلا من مناقشة المسألة الاقتصادية، والتي جاء على معالجتها في الباب الأول من خلال مناقشة قضايا الدولة والتراتبيات الاجتماعية.