تبقى المواطنةَ الرابطة التي تشد مكونات المجتمع بعضه إلى بعض في مواجهة الهويات التقسيمية، وفي مواجهة التحديات والأخطار المحدقة بالأوطان، ويبقى التّعويل الأساسيّ في حماية المجتمعات وضمان استقرارها وحدتها الوطنية، كأساس يجب أن تكون محور العمل السياسي الوطني بكل اتجاهاته وتوجهاته، ومحور العمل المجتمعي والثقافي والإعلامي والتربوي. لذلك حين تبدأ المجتمعات بالتعبير عن نفسها بهويات تقسيمية غالبًا ما تدخل في نفق مظلم من الانقسامات والصراعات والمواجهات التي رأينا نماذج منها ونتائجها المدمرة في عدد من المجتمعات التي انقسمت على نفسها فتقاتلت أو أفنى بعضها بعضًا.
إن شرطي المواطنة والوطنية هما الحريةُ والمساواة في علاقة المواطن بالآخرين وبالدولة معًا، باعتبار المواطنة أساس العيش المشترك والوطنية الحصن لحماية المجتمع والحفاظ على مناعته في مواجهة الأخطار. ومع وضوح ذلك فإن الحديث عن المواطنة المتساوية قد يزعج البعض، فيعمدون إلى تخويف الناس من أن يكونوا أفرادًا أحرارًا متساوين، يتمتعون بحرية فكرهم ويتحملون مسؤولية اختياراتهم الحرة. ولا شك أن التّربية المدنية تأتي لتثبيتِ الوطنيةِ، والعملِ على تحقيق مجتمعٍ متحضّرٍ متضامنٍ منفتحٍ ومتسامحٍ، تقوى فيه الرّوابط الاجتماعيةُ والوحدة بين مكوناته، ويزدهر فيه السّلوكُ المدنيُّ. فالتّحدياتِ التي تواجه مجتمعاتنا تقتضي التّمسكَ بالمواطنةِ كسبيلٍ للتَّعايش، وتمجيد الوطنية ضمن سلّم القيم التي نعلمها الأجيالِ الجديدةِ، بعيدًا عن الانتماءات الضَّيقة والتقسيمية التي يُمجدها البعضُ ويتمسكون بها. ومن هنا تبدو المهمّةُ الموكولةُ للأسرةِ، وللمؤسّسات الرَّسميةِ، ولمؤسّساتِ المجتمعِ المدنيِّ، كبيرةً، للمساهمة في مشروع تنشئةِ المواطنةِ وتعزيزِ الوطنّيةِ.
ويأتي دور المدرسة في هذا السياق - بعد الأسرة - في المقدمة، لتحقيق هذه الأهداف، من خلال برامجها وأنشطتها، للعمل على غرس تلك القيم. فالمدرسة ليست مجرد فضاء لاكتساب المعرفة والمهارات الحياتية للطلبة فحسب، بل هي أيضاً فضاءٌ لبناء الوعي بالمواطنة، وتثبيت قيمها وتنميةِ السّلوك المدنيّ، باعتبارها مؤسّسة إدماجٍ اجتماعيٍّ وإطارًا ملائمًا لبناءِ الهويّةِ الفرديةِ والجماعيةِ. وإن أخطرَ ما قد يصيبُ الأجيالَ الجديدةَ، أن يتحوّل المواطنُ - بما يفترض أن يحملهُ من ارتباطٍ عاطفيٍّ بالوطنِ ووعيٍّ عقلانيٍّ به - إلى مجردِ فردٍ منعزلٍ، يبحثُ عن خلاصهِ الفرديِّ بعيدًا عن العلاقة مع المجتمع والدّولة.
كاتب وإعلامي بحريني