يقول ابن خلدون في مقدمته “إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقها لأول وهلة، وكان ذلك الميل غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله”. ولا نتوقف هنا عند مهمة المؤرخ كما فصلها ابن خلدون، إنما نطمح إلى ما هو أبسط من ذلك بكثير، وهو الحاجة الماسة إلى التمحيص والتدقيق والمراجعة للمعلومات والأخبار قبل نشرها أو التعليق عليها، حيث يكون الهدف الوصول إلى الحقيقة، بعيدًا عن أنواع التعصب التي تعمي البصر والبصيرة عن الحق. وأول مدارج الحق التمييز بين الدعاية والحقيقة، وبين الكذب والصدق.. فالأخبار المزيفة قد تهز المجتمع، عندما يسارع الناقلون بنقلها، لمجرد الغفلة أو الهوى أو السير وراء خصومة مع أحد أو فئة من الناس أو شعب من الشعوب.
صحيح أن الخصومات والمعارك شأنان إنسانيان لا فكاك منهما، وأنهما من أمراض البشر الموروثة، لكن هذه الخصومات والخلافات مهما كان نوعها (فكريًّا، سياسيًّا، مذهبيًّا، اجتماعيًّا...)، قد تكون مشروعة إذا ما بنيت على ميثاق قدسية حق الاختلاف، والإقرار باحتمال الخطأ وحتمية المراجعة في هذه الحال.
فالخلافات لا يجب أن تكون عائقًا أمام فوز الإنسان بحقوق كثيرة لا معنى للحياة الكريمة بدونها، مثل حقه في المعرفة وحقه في الكرامة. لكن مثل هذا الإقرار من قبل المثقف، بمبدئية حق الاختلاف وحده، دون تحديد ماهيته وأفقه وأدواته، قد يدفعنا إلى الشكّ في سلامة الأهداف المرسومة من قبل المثقفين الذين لا يمكن أن يشكلوا قوة وعي واستنارة، وقوة حق في مواجهة الجهل والكشف عن خبث آلة الكذب والتزييف.
إن رسالة المثقف هي الوصول إلى الحقيقة والدفاع عن حرّية الإنسان وكرامته في أي مكان كان. وجميع النوازع الفردية والعقدية لا يجب أن تحول دون إصداعه بالحقيقة ودفاعه عن الحرية والعدالة حتى بالنسبة لمن يختلف معه في الرأي والعقيدة والمصلحة.
*كاتب وإعلامي بحريني