يبدو أن الموقع الوظيفي السليم لابد أن يذهب للشخص “السليم”، وتحت “السليم” عشرات الخطوط الحمراء الفاصلة بين الذي يتقدم لوظيفة مهمة براتب كبير، وبمساندة تعليمه الراقي وخبرته الواثقة، وموهبته الآثرة، وهؤلاء الذين يهبطون بالمظلات على الوظائف الذهبية وفي أياديهم بطاقة توصية مكتوب عليها “لحامله”.
هكذا تُدار ماكينة بعض المواقع الوظيفية، في الأماكن المعروف عنها أنها مخصصة لـ “أولاد الحسب والنسب”، وهؤلاء الذين تربطهم مصالح ومعادلات وعلاقات ووشائج، بالتأكيد هو الفرق الكبير بين الذين لا يحملون سوى شهاداتهم الجامعية، وعلومهم الإنسانية، وآدابهم المؤثرة، وأولئك الذي يحملون فيهم معارفهم وعائلاتهم وأقرب المقربين إليهم. حدث ذلك في أحدى الشركات حيث وجد أحد المسؤولين العصاميين نفسه فجأة وهو يرضخ لأوامر زميل له في الجامعة، وكان معروفًا بالبلطجة وكآبة المعشر وسوء المنقلب، وجد الشخص المجتهد نفسه وبعد عشر سنوات من الخدمة المتصلة تحت وطأة زميله السابق وقد تحول إلى شخص متغطرس، متعجرف، يتعامل معه وكأنه صديق لم يكن صديقه، وكأن البنك الذي يعمل فيه مكتوب باسمه، يتصرف فيه كيفما يشاء، وفي موظفيه مثلما يحلو له. مرت الأيام ورغم الشكاوى المتعددة من المواطن “المظلوم” تجاه رئيسه “المحظوظ”، إلا أن الموارد البشرية والشؤون القانونية تحيل كل الشكاوى إلى سلة المهملات. مرت الأيام، بل والسنوات، فإذا بالموظف المسكين الذي يمتلك من المهارات والصبر على المكاره والاجتهاد في الأداء ما يجعله رئيس قسم أو مديرا لإدارة وليس مرؤوسًا لجاهل، أو تابعًا لحاقد، أو متحاملاً على نفسه مما لا تحمد عقباه.
هذا مثال واحد من بين عشرات الأمثلة التي تدل على غياب التوصيف الوظيفي لدى العديد من مؤسساتنا التي تعتمد على مهارة القوى البشرية، والكفاءة في الأداء، والصبر على الدوامات الطويلة، هذا مثال واحد من بين عشرات الأمثلة التي لو تطرقنا لبعضها، أو كشفنا الغطاء عن بعضها الآخر، لاكتشفنا أن العدالة على الأرض شيء وعدالة السماء شيء آخر. العدالة على الأرض أصبحت محكومة بأمزجة لا بقوانين، وباتت منخطفة من كتائب التمصلح عميقة الجذور في مجتمعاتنا أكثر من كونها حرة طليقة، تحكم بأمر الله، وتنفذ بطوق التشريع، وتتحمل المسؤولية المشتركة مع جميع المسؤولين من دون تفرقة أو استثناء.
إن توزيع الأعباء على الجميع جزء من العدالة على الأرض، شأنه في ذلك شأن توزيع الأرباح نهاية كل سنة، أما أن يتم حرمان موظف من هذه الأرباح لأن “شكله مو عاجب رئيسه المباشر”، أو أنه ثقيل الظل على قلب مديره أو المسؤول عن دائرته، فهذا يمكن أن يدرج تحت بند “وأولئك هم القوم الظالمون”.
التوصيف الوظيفي في بلادنا مازال يحتاج إلى عناية مركزة، إلى رعاية من نوع خاص، إلى عدالة إنسانية يحكمها القانون ولا تتحكم فيها أخلاقيات فقدناها في زحمة الحياة.
التوصيف الوظيفي أو التصنيف الوظيفي غائب في مؤسساتنا الخاصة قبل العامة، تلك المفترض فيها أنها تعتمد على فلسفة “الأجر مقابل الإنتاج”، وليس الرضا مقابل الدم الخفيف، أو الخدمات الذهبية خارج الدوام الرسمي. التوصيف الوظيفي أو تصنيفه يحتاج إلى فرز، إلى غربلة، إلى إعادة تدوير، وإلى تفتيش من الجهات المسؤولة عن نظام العمل، خاصا كان أم عاما، عائليا أو حكوميا أو مختلطا، وإلا فإننا لا نلوم عقولنا المسكينة لو توجهت بقدرة قادر إلى عقول مهاجرة، أو باحثة عن عدالة السماء بعد أن تفقد الأمل في العدالة على الأرض.
*كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية