العدد 5957
الثلاثاء 04 فبراير 2025
التهجير والتدبير والمعرض
الثلاثاء 04 فبراير 2025

 لم تكن ركعة لوجه الله، تلك التي استخرت فيها ربي لكي أتخذ قرارًا حاسمًا بشأن ما يفعله ترامب، وما يرتد عليه من قرارات، تمامًا مثلما هي دعوة مفتوحة لكل من يهمه أو لا يهمه الأمر للاستماع إلى ردود الأفعال العربية بعد أن ظهر ترامب للمرة الثانية على التوالي، وربما الثالثة وهو بكامل غطرسته وفي كامل ثقته بنفسه، وهدوئه الذي لم تستره حرائق لوس أنجلوس أو تصادم الطائرات فوق واشنطن، لقد قالها وأعاد ترديدها: “بل سيأخذون سكان غزة، لقد فعلنا من أجلهم الكثير”.
هكذا وبمنتهى التعالي يتحدث الرئيس الأميركي كاشفًا نواياه بأن تتحول غزة إلى وطن بلا شعب، فقط مجرد أرض خراب، وفقط مجرد أشباح تتحدث مع أصحابها، وفقط أنقاض تصفر الريح فيها، ولا يصفر البشر. قالها ترامب ورد عليه الرئيس السيسي وملك الأردن، وكررها من مكتبه البيضاوي وتولى الإعلاميون ومجلس وزراء الخارجية العرب وهم يتحدثون عن حل الدولتين وليس عن تهجير شعب إحدى الدولتين، قالت الجامعة العربية كلمتها، وقال الشعب المصري كلمته عندما ذهب الآلاف مدججين بالرفض والاستنكار عند معبر رفح البري، ومطالبين المجتمع المسمى بـ “الدولي” بالتدخل الفوري لوقف هذه المهزلة السياسية التي تمنع شعبًا من العيش بسلام في وطنه، بل وتحرض الأشقاء على استضافته لتنهي قضيته، وبموت تاريخه، وبفني حقه. 
 ما بين “التهجير” والمعرض، لوائح المسافة وقوانين غياب التركيز، وأكذوبة الزمن الاصطناعي المحمل على أجهزة الهواتف النقالة، ما بين صاعقة ترامب ومعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يحمل الرقم 56، ملايين الكتب التي عثرت لنفسها عن مأوى معتبر في أجنحة المعرض، بل وعلى زبائن يناقشون الكتاب قبل شرائه، ويزورون الأرفف قبل التقاطه، ويصافحون أصحابه بعد أن يستمعون منهم لأحسن القصص.
“ذات رحلة” مثلما علمتنا الشاعرة الموهوبة هبة السيد عبدالوهاب، أن تربط الجملة المكونة من كلمتين بمخارج ألفاظ خارج دائرة الدارج من معنى، وكأنها تريد أن تبعث من خلال جروحها المستقرة في ركبتها اليسرى أن هناك على بعد متر واحد ركبة أخرى، أو أن هناك على القرب من الجرح الغائر إنسانًا يحارب بمفرده، ويدعي أنه يستطيع إخراج شخوصه من رواياتهم، والسيطرة عليهم حتى لو كانوا خارجين عن السيطرة. إنها حكمة شاعرة موهوبة حرصت أن أبتعد بها عن أجواء المنطقة السياسية المحتقنة، لكي أتذوق معها حلاوة التناص في أبهى صوره، ومعدن اللازورد الخالص من عائلته المقدسة.
“جراح في الركبة اليسرى” ديوان شعر قدمه للناس زميلي اللدود حسن طالب بكلمات فيها من الشوق لكل ما كان يتمنى أكثر مما فيها من التحليل لكل بنية محتوى ثابت الملامح، واثق الخُطى، من خلال “سريالية” أو “دلل على صباح الخير” أو “الشارقة” أو “اللقاء الثاني” أو حتى “مذاق الغياب”. مجموعة شعرية تبحث في بحر لا بحر له، وفي أوزان مستمدة إيقاعاتها من موسيقاها الداخلية، ومن قوافي غائبة عن البصر ولم تغب عن البصيرة.
“ما بعد الفراق” قصيدة تشي بكل ما فيها من لحظات وجودية على ضفة أخرى، هي في حد ذاتها الجهة المقابلة للحياة، الشط المخاتل دائمًا وأبدًا، السراب الصحراوي المشتت لأفكارنا وأهدافنا وقدرتنا على التحلي بالأمل.
“ذات صبر”، “كيف أحكم جنوحه في الفرح، والشوق والتوق نحوك؟”، تصريح بليغ من سيدة تواجه حقائق مشاعرها، بجملة شعرية قاطعة، بخفة حركات ساكنة تسبقها سواكن متحركة، قطعة قماش مبللة بعصير المشوار الصالح للاستخدام الآدمي، وليس ذلك منتهي الصلاحية على الرغم من التهامنا إياه.
فكرت بألا أنجرف خلف “التهجير” وأكرر فعلتي الأولى، فأقوم بزيارة افتراضية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، لعلني أعثر عن ضالتي ولو لم تكن منشودة، فلمعت بين يدي آثار دماء من “جرح بالركبة اليسرى”، ولم تترك لي فرصة عمر كي أتمنى جرحًا مثيلًا، في أية ركبة أخرى.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .