في حفل أسطوري كان التنصيب، لن أقول إن الأعمال بالنيات أو لكل مجتهد نصيب، لكن أستطيع القول إن الرصاصة الطائشة هي التي تصيب، والرصاصة الدقيقة تذهب بها الرياح لكي تجرح أذن المرشح الجمهوري وهو بين أعوانه ومريديه.
هذا هو الحفل الذي وجه فيه الرئيس الأميركي السادس والأربعون كل كلماته للنيل من خصومه الديمقراطيين، بالتحديد إلى سلفه بايدن ونائبته كامالا، الكل يصفق بعد توجيه حربه الكلامية إليهما، وهما ينظران إليه بامتعاض، ولكن ماذا نقول؟ إنه بروتوكول الكابيتول، وجدول أعمال يوم “الإحلال” الكبير، جمهوري يتوعد ديمقراطيا بإلغاء كل قراراته بجرة قلم، وديمقراطي يستمع بأدب وامتعاض لكل ما يوجه إليه من اتهامات تخص تقويض الدولة العظمى، وخلخلة نظامها الصارم.
ترامب يوجّه كلمته لخصومه، مثلما يرمي من دون رامٍ على الواقع المحلي الأميركي، على الجيش الذي يتم تحريكه من الشمال إلى الجنوب، لمنع ما أسماه بالهجرة غير الشرعية، خليج المكسيك الذي يطل على ميامي وفلوريدا وتغيير الاسم إلى الخليج الأميركي، تأسيس أكبر شركة للذكاء الاصطناعي في الكون برأسمال 500 مليار دولار أميركي، في واحدة من القرارات “الثورية” التي ستضع الولايات المتحدة الأميركية على عرش عصرها الذهبي من دون منافسة من الصين أو كوريا أو روسيا أو غيرها. الرئيس الأميركي لم يتحدث عن الشرق الأوسط إلا في اليوم التالي من التنصيب، لم يطرق باب حرب أوكرانيا ولا الصراع مع صواريخ كوريا الشمالية النووية.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية
تمامًا مثلما تجاهل قضايا البحر الأصفر وسلطة الصين على تايوان واحتمالات المواجهة المصيرية عند إعادة “الضم” وإنهاء حقبة الانفصال بين “الصينيتين”.
تحدث ترامب عن التأمين الصحي، عن آلياته الأرخص سعرًا، وعن خدماته التي يجب أن تصل على حد قوله لكل مواطن أميركي، عن “تنظيف” الأسواق من المهاجرين غير الشرعيين، وإعادتهم بسرعة إلى بلادهم الأصلية. ترامب، بلهجة المنتصر ولغة زعماء الزمن القديم، يقف فخورًا بنفسه، معتدًّا بها، مهاجمًا كل من يحتج أو يعترض عليه، مستوليًا على البيت الأبيض بطريقته الخاصة، وبإشارات اصبعه الأيمن، وإنجازات عصره الذهبي الذي لم يبدأ بعد.
ترامب حالة خاصة، وحفل تنصيبه في المكان نفسه الذي حاصره بأتباعه قبل أربعة أعوام عندما فاز بايدن في النزال الانتخابي الشهير، وكان يريد أن يقلب الطاولة على القانون والدستور، ولوائح التنصيب الأميركية “العريقة”.
حفل الـ 20 من شهر يناير الحالي، لم يكن كبقية الاحتفالات بقدر ما كان تصفية حسابات، إعادة جدولة لأولويات، طرح مشاريع خيالية لضم ما لا يمكن ضمه من دول وجزر وقنوات، قناة بنما مثلًا يريدها أميركية، دولة بنما نفسها يريد أن تكون مجرد ولاية إضافية للولايات المتحدة الأميركية، شأنها في ذلك شأن جرينلاند وكندا، بعضها إن لم يكن معظمها.
هذا هو الأمن القومي الأميركي في المفهوم “الترامبي” المعاصر، وهذا هو الاحتجاج الأوروبي لم ينتظر قرارًا أميركيًا بـ “الضم”، ولا إجراءً حكوميًا من ترامب لتحويل الخيال إلى واقع، والجنون إلى عقل اصطناعي تعادل قيمته الـ 500 مليار دولار التي دفعها فورًا لتأسيس “Stargate” – أي بوابة النجوم، على وزن سلفه البعيد رونالد ريغان، مؤسس برنامج حرب النجوم “Star Wars” في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
يبدو أن الهيكل الهوليوودي الذي تمت إعادة بنائه داخل البيت الأبيض سوف يشكّل مستقبلًا جديدًا للولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا أن ترامب كان يتحدث عن المستقبل الذكي للعالم، رغم أن هذا المصطلح الجديد لا يرتبط بالضرورة مع تصنع الذكاء، وإجباره على التخلق من خلال شركة متخصصة مديرها المسؤول أميركي من أصل صيني، ربما لأن قياس معدلات الذكاء وفقًا لمعيار المعرفة العالمي قد وضع الشخص الصيني على قمة أذكياء العالم الطبيعيين، ووضع الكوريين في المرتبة الثانية، لكنه لم يضع الأميركيين ولا البريطانيين حتى في العشرة الأوائل من العظماء عقليًّا، والنابغين النابهين ذهنيًّا، والفارقين المتفوقين علميًّا.
حفل تنصيب ترامب جنوني في كل شيء، في قياس معدلات النمو المتسارع للاقتصاد الأميركي، في عملة البيتكوين التي أطلق عليها اسمه ليشجع العملات الرقمية على الخروج من نفق الهزات العنيفة بعد أربع سنوات من حكم الديمقراطيين لهذه العملات المشفرة.
حفل تنصيب ترامب لم يكن مثل بقية الاحتفالات لسبب بسيط هو أنه كان أول رئيس أميركي يعود مرتين بعد ثلاث محاولات، وأنه أول رئيس ربما في العالم الديمقراطي العريق يتم انتخابه وإعادته للبيت الأبيض بعد أن خرج منه في انتخابات ماضية مازال الجدل حولها قائمًا.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية