العدد 5943
الثلاثاء 21 يناير 2025
الشعلة وفك العقدة مع الجوار
الثلاثاء 21 يناير 2025

كثيرون هم الذين يتجنبون الكتابة عن هذا التاريخ، عن تلك العلاقات المتوترة دائمًا، وأبدأ بدول الجوار وجوار الجوار. الوزير الأسبق والكاتب الكبير الأستاذ عبدالنبي الشعلة دائمًا ما يغرد خارج السرب، ما يحاول أن يعبر ذلك الجسر الطويل بين الممكنات والمستحيلات. هو ما كان يقوم به منذ نعومة أظفاره، وما تعود عليه عند مواجهة الصعاب، هي الشجاعة التي يفتقر إليها الذين لا يفهمون طبيعة بلادنا، ومناخ الحرية والكرامة الذي نعيش فيه بفضل إيمان وحكمة قادتنا بوحدة شعبنا، وسلامة فكرنا وصحة معتقدنا الوطني، وصرامة الدفاع عنه ضد أي طامع أو غاصب أو دخيل.
من هذا المنطلق، تحدث الوزير الشعلة بالشجاعة نفسها، بالإيمان نفسه، وبالأداء المهني الرشيق صاحب الإطار المتزن الاحترافي. تحدث الصديق بإخلاص منقطع النظير، بحيادية ونزاهة كاتب الخبر وليس معتنق المقال، بدقة ناقل الحدث لا المنحاز لصالح فكرة أو اعتبار، بذلك الذي يمكن أن نطلق عليه بالمختصر المطول، علاوة على المختصر المفيد. قرأت مقالك يا “بومشعل” وأنا مذهول لصراحتك، مهنئ لك على صلابة موقفك، على قدرتك على سبر أغوار الجوار، لأطماعهم وعقدهم، ولتاريخنا وحساسيتنا تجاههم. حسدتك على هذا التناول الذي طالما نادى به كبار مفكرينا، محمد حسنين هيكل في “تجربة حياة”، عمرو موسى في مواقفه تجاه دول الجوار وجوار الجوار، وعند فك شفرة الأمم الملتصقة بنا تاريخيًا، لكن وجودها لم يكن في يوم من الأيام “تحصيل حاصل”، بقدر ما هو أمر واقع ينبغي التعامل الدائم معه.

على هذه القاعدة بنى الأستاذ عبدالنبي الشعلة مقاله الذي لم يخطئ هدفه، ولم ينحرف عنه، ولم ينجر إلى مهاترات هو ونحن والوضع الراهن في غنى تام عنها. ذهب إلى التاريخ بكل شجاعة، إلى عقدتنا وعقدهم، إلى تحفظنا ومبررات الكراهية، إلى الاعتراف المتبادل بحق كل منا في الحياة والتنمية والدفاع عن مصالحنا، لأننا على هذه الأرض خُلقنا وفيها نموت.
هكذا يفكر الأستاذ عبدالنبي خارج جميع الصناديق، ويفتح الملف العربي الإيراني بحكم المسافة وليس لأي اعتبار آخر، بحكم القراءة الدقيقة للتاريخ وحقائق الصراع على الأرض وليس من منطلق المشادات السياسية، والمزايدات الوطنية، وتلك التي يحكمها الشعار ولا تحكمها الحقائق الدامغة.
لقد تمكن ذلك المقال الذي نُشر الأحد الماضي، في الصفحة الثالثة لـ “البلاد” الغراء، من وضع أساس للحديث عن مناطق الاحتكاك المؤثرة مع القوميات الأخرى التي تعيش أحيانًا بيننا، عن عدم الثقة عند مناقشة قضايا الحدود والنفوذ وإشعال الحروب بالوكالة، عن القبول بالآخر والتسامح الذي هو روح سياستنا الداخلية والخارجية التي أرسى دعائمها مليكنا المعظم حفظه الله ورعاه.
فك العقد التاريخية كان بمثابة ضربة البداية، ليس بين الخليج وإيران فحسب، إنما بين مصر وإثيوبيا على سبيل المثال، بين تركيا وسوريا كدليل جديد على ما يحدث حاليًا على الحدود، ثم بين الجزائر والمغرب على قضية الصحراء، وما أدراكم ما قضية الصحراء. هذا يؤكد أن جوار الجوار، والجوار فقط، يعاني من قضايا مصيرية، من حساسية مفرطة، من عقد لها تاريخ قد تكون مباراة لكرة القدم، أو حربا ضروسا دارت رحاها في الزمن الأخدودي العظيم، أو خلافًا على نقود كتلك التي حكمت مياه النيل على امتداد الوادي الطويل.
هذا أو ذاك.. لا يهم، المهم أن ما كانت تُحذِّر منه جامعة الدول العربية في العديد من تقاريرها الداخلية وتلك التي طرحتها علانية في أكثر من قمة، مازالت تمثل مخاوف أساسية في صراعاتنا الشرق أوسطية المباشرة أو الجانبية، تلك التي تمخضت عن دولة ومنطقة هي الخليج أو العرب وإيران، أو الأخرى التي تحكمها عقد تتعلق بمستوى المعيشة بين دولة في الشمال هي مصر، وأخرى في القرن الأفريقي وهي إثيوبيا، وأخيرة في أقصى المغرب العربي، بين الجوار فحسب، نتيجة لمواقف سابقة التجهيز وأخرى لها تاريخ مغاربي ممتد.
بصرف النظر عن هذا أو ذاك، لقد ثكأ الشعلة كل الجروح وفتحها بمشرط جراح ماهر، وأخرج منها ما كانت تُخبئه الصدور، وتُخفيه الحدود، وتردمه الصراعات.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .