لا أعرف بالتحديد معنى كلمة “عفارم”، لكننا نستخدمها أحيانًا عند الإشادة بالمواقف البطولية للأشخاص والجيوش والأمم، وهي تعادل كلمة “كفو” في البحرين، وهي تؤكد قوة الموقف الذي لم أتوقعه، ولم يتوقعه غيري من مذيعة قناة القاهرة الإخبارية فيروز مكي وهي تمنع أحد المحللين السياسيين الأميركيين من أن يبتسم وهي تسأله عن أطفال غزة الذين تقتلهم إسرائيل بدم بارد كل لحظة، وتدعي أنهم يخبئون في “حفاظاتهم” جيوش المقاومة الفلسطينية.
لقد قالتها الزميلة بالفم الملآن “أنا لا أسمح لك أن تبتسم وتستخف بنا، ونحن نعيش مأساة أطفالنا في غزة، أنت تتحدث على قناة القاهرة الإخبارية وهي قناة مصرية عربية، ولا يوجد عربي لا يعيش في هذه اللحظات حالة حزن لا حدود لها، فأرجوك احترم مشاعرنا ولا تستخف بها”. حاول الرجل أن يقاطعها فلم تسمح له بالمقاطعة، وواصلت غضبتها عليه قائلة باللغتين العربية والإنجليزية “أرجو أن تكون المترجمة قد قامت بتوصيل فكرتي بالوضوح الذي أتحدث به إليك”.
إلى هنا انتهت المكالمة، وانسحب المتحدث الأميركي من البرنامج معترضًا أو محتجًا، خصوصا بعد أن وجهت المذيعة إليه لطمة قوية عندما قالت إنه وقناته كانوا يتحدثون عن أطفال إسرائيل بمنتهى الرقة، وعندما جاء التقرير المخزي عن أوضاع أطفال غزة المذبوحين بأحد المستشفيات بعد أن ادعت إسرائيل أن المقاومة تختبئ تحتها داخل أنفاق عملاقة، تم إخفاء هذا التقرير الذي يفضح أنه لم تكن هناك أنفاق تحت المستشفى، ولم يكن هناك مقاومون ولا هم يحزنون.
هذا موقف من سيدة عربية حديدية بــ “100 رجل” مثلما يقولون، بل أقول إنها بألف رجل من عينة المذيعين المشغولين بفنانات هذه الأيام، وبمطربي المهرجانات، وهؤلاء الذين ينصبون المجالس ببعض الفضائيات العربية لمناقشة القضية نفسها بملابسهم الفاخرة، و”مكياجهم” المثير، وضحكاتهم المجلجلة. لم يخجل هؤلاء من أنفسهم وهم يناقشون قضايانا المصيرية وكأنهم في نزهة خلوية، أو في حفل ساهر كبير، أو في قاعة “ديسكو” للترفيه عن القلوب المريضة.
لم ينتبه صحافيونا إلى السيدة فيروز مكي، ولم يتعلموا من الدرس الذي لقنته للمحلل الأميركي الذي يكيل بمكيالين شأنه في ذلك شأن أبناء جلدته، وكان ينبغي عليها أن تلقن هذا الدرس لمحللينا السياسيين العرب، الذين يتباهون بعبقريتهم في اللباقة عند الكلام، والكياسة عند الصمت، والابتسامة العريضة عندما توافقهم المذيعة “الدلوعة” آراءهم وكأنها حقيقة دامغة ووصية تحمل الرقم الحادي عشر.
نحن أبناء أمة واحدة، ولا يصح ولا يستقيم أن يقبل أي منا ذلك الاستخفاف الذي نتعامل به مع قضايانا المصيرية، خصوصا أنني متأكد بأن مسؤولي قناة القاهرة الإخبارية لم يوجهوا مذيعتهم بأن ترفض ابتسامات المحلل السياسي الأميركي بهذه الطريقة، لكنها مشاعر سيدة مصرية عربية أبت إلا أن تنفجر بها على الهواء مباشرة، لم تخش على مستقبلها المهني، ولا على الأموال التي تحصل عليها من تلك القناة العربية الدولية المهمة، فقالت كلمة حق لا يُراد بها باطل، وللمرة المليون بعد الألف أتذكر أمل دنقل في كلمات سبارتكوس الأخيرة، عندما قال “من قال لا في من قالوا نعم، من علم الإنسان تمزيق العدم، من قال لا فلم يمت، وظل روحًا أبدية الألم”، هو تمامًا ما كانت تريد المذيعة فيروز أن تسجله بوطنية لا تقبل الشك، وبأخلاق إعلامية رفيعة نفتقدها هذه الأيام.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية