العدد 5873
الثلاثاء 12 نوفمبر 2024
banner
فارس الرومانسية يترجل وسط أجراس المساء
الثلاثاء 12 نوفمبر 2024

أخيرا غادرنا فارس الرومانسية الكبير الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، أخيرا رحل الرجل الذي علمنا الخيال ليتركنا بعيدا عن ظله الممشوق بالأحزان، عن روحه المستبدة “حين نطغى في الميزان”، لم نتعلم منه الحب مثلما كان يريد، فزمنه كان زمانا للمادية الجدلية، للأرواح الهائمة تحت وطأة الأسى الماركسي، ومطارحات اللينينية، كان بين شقي رحى، أحدهما يتعلم من الشيطان كل شيء “المجد للشيطان معبود الرياح” هو الصعيدي أمل دنقل، والآخر ابن كفر الشيخ البار والشاعر المحمل بتراث التجريب والتجريد والصور بعيدة المدى الراحل محمد عفيفي مطر.


أحدهما تسيطر عليه أفكار الثورة بمفهومها الوصفي آنذاك، والآخر تكبح جماحه المنغصات فيرتدي ثوبًا لغويًا يخبئ فيه أضغاث أحلامه ليكتب إلى جيل جديد قادم، وليس إلى جيل حديث يعاني، وقف محمد إبراهيم أبوسنة بين أمل دنقل وعفيفي مطر، شامخا بلغته البسيطة، عميقا بصوره الشعرية الخلابة، رائعا شفافا إلى حد النقاء الإلهي أو النبوي المهيمن على صغائر الدنيا، وعزم الأولياء. لم يتخل أبوسنة الذي رحل قبل 48 ساعة عن عالمنا، عن منهجه في طرح اللامعقول الحسي، ليواجه به اللامعقول الجدلي، وقف بين طريقين أحلاهما مر، الأول: التعاطي مع التجربة بعذوبة المعاني والصور المتلاحقة والاستجداء الحسي للمشاعر أو المواقف من تجارب شخصية قاسية، الثاني: عندما فعل أبوسنة كل شيء في اللغة الهائمة فوق أعمدة الكنائس القديمة، ومنارات المساجد والأديرة العظيمة. 

وقف يناشد أجراس المساء وكأنه ينادي على قاهرة المعز، عن رنين تواشيح أيامها الشتوية القارصة، عن رهبة الصباح عندما يشرق بأمطاره الغزيرة على جبل المقطم القريب، لينعى حبيبًا يودعه أهله الطيبون إلى مثواه الأخير، صرخة أم ثكلى أو أرملة حُبلى، أو ابنة لم يشرق شمسها الأصيل بعد.


كنت ذات ليلة أمشي في شوارع القاهرة الحزينة، أناجي أضواءها الخافتة، يلفني التشاؤم وتلمني لوعة الحب، أهكذا تبدو منطقة وسط البلد خاوية إلا من مكتبة “مدبولي”، هاوية حتى السقوط في آبار الزمن المباغت، والأيام الخوالي عندما كان الكل يشدو بـ “ثورة الشك” أو قصة الأمس، توقفت أمام مكتبة مدبولي لحظة، لحظات، لفت انتباهي عنوان أخاذ لديوان شعر جديد مكتوب في صدر غلافه الجميل: “أجراس المساء”، للشاعر إبراهيم أبوسنة، جمعت كل ما لدي من قروش ولم أتردد في شراء الديوان ولو على حساب وجبة عشاء يمكن تأجيلها إلى ما بعد منتصف الليل.


التقطت الديوان بيدي وحضنته بصدري، وكنت على مقربة من آخر “أتوبيسات” الضواحي الذي سيلقي بي على مشارف بيتنا في أرض النعام شرق القاهرة حيث الأم بانتظاري، واللهفة على مقربة مني، كنت سعيد الحظ، فالمقاعد مازالت خاوية، ولدرجة أنني اخترت مكانًا مريحًا لأجلس عليه طوال 45 دقيقة هي المدة الزمنية بين مكتبة “مدبولي” وبيتنا القديم.
“أجراس المساء” كان مازال نائمًا على صدري، يتنفس معي الصعداء، وأنا أهتف من كل قلبي “يا عزيزي اتئد”، وبالفعل لم أترك الديوان إلا بعد أن قرأته وحفظته عن ظهر قلب من فوق المقعد المريح بالأتوبيس، وقبل أن يتوقف أبوسنة عن الكلام المباح، كنت قد وصلت قريبًا من محطة الوصول، وأنا أُنهي آخر كلمات “أجراء المساء”، وهي تهتف باسم حبيبته التي ذهبت دون رجعة:
“تمهلي.. تمهلي
وأنتِ تعبرين
فما صبرت كل هذه السنين
لكي أموت حسرة
عليكِ هكذا
وأنتِ تذهبين
وأنت تذهبين”.

كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية