قد تكون تلك هي المرة الأولى في التاريخ الأميركي المعاصر أن يعود الرئيس الأميركي بعد أن يخرج من المكتب البيضاوي، أن يعتلي العرش بعد أن انفض الناس من حوله في دورة رئاسية سابقة. يقولون: الشياطين تعيش مرتين. لكن، ترامب أثبت للعالم أنه شيطان في لمح البصر، يستطيع أن يذهب إلى غير رجعة، لكنه يعود أقوى مما كان.
المجمع الانتخابي صاحب الـ 270 صوتًا انتصر ترامب عليه بنحو 277 صوتًا، كامالا هاريس التي راهنت على كل الأحصنة، وتملّقت جميع الفرسان، وتقلدت مختلف الأوسمة الافتراضية، فشلت في أن تصدق نفسها حتى يصدقها الناس، ذهبت إلى الأقليات والمهاجرين و”أشباه الأنصار” لكنهم لم يصدقوها، توجسوا من خطابها الفضفاض، من رؤيتها العائمة، من صوتها الضاحك بالوعود، والمتملص في اللحظة الأخيرة. ترامب يفاجئ الجميع في “ميتشِغان” صبيحة “التصويت الكبير”، يجلس مع العرب في المطاعم والمقاهي، يتناول معهم طعام الإفطار ويعدهم إذا فاز بوقف الحرب في غزة ولبنان. العرب كعادتهم.. طيبون، مسالمون، صدّقوا الرجل، وصوّتوا لصالحه، فإذا به يلقي بعصاه في تصويت مبكر قوامه 82 مليون نسمة قبل “اليوم العظيم” بـ 24 ساعة، ويحصد أصوات انديانا وكنتاكي وبنسلفانيا في لمح البصر. ويستمر النزال والعالم يقف وعلى رأسه الطير، يا ترى يا هل ترى، من الذي سيفوز بعد رصاصة الأذن اليمنى، ومن الذي سيذهب إلى العالم لكي يأمر وينهى ويتكئ على عصاه السحرية مستشهدًا بالتاريخ، ومستسلمًا للتكنولوجيا، وملوحًا بسيادة القانون.
فاز ترامب وخرجت هاريس من السباق الماراثوني أمام “الشاب العجوز”، لتصمت قليلًا، لتتوقف عن الكلام المباح، ولتترك الجمل بما حمل لرجل أصرّ فانتصر، وعقد العزم فأجاد، ولعب على جميع الأحبال الصوتية، وعلى جميع السلالم الموسيقية ومختلف الكراسي المتحركة، وتمكّن في النهاية من الوصول إلى مبتغاه، إلى حلمه الكبير، إلى مكانته كأعظم رؤساء أميركا على الإطلاق، مثلما يدعي، أو مثلما يرغب أن يكون، ترامب يبهر العالم بأدائه الرشيق، بمشروعاته مترامية الأطراف، بوضوحه الذي يجهل مسك العصا من المنتصف، ثم بذكائه الحاد الذي وضع كل دعاياته الانتخابية، في عهده كل شيء، ليصبح من الرؤساء القلائل الذين يخرجون من البيت الأبيض ثم يعودون إليه وهم محمولون على أسنّة الرماح، وليس على أسنة الكتب المقدسة.
ترامب رئيس يحمل الرقم 47 للولايات المتحدة الأميركية، ويمسك بالسبّابة والإبهام بفرصة عمر أتاحها لنفسه، بآخر جرعة إنقاذ يمكن أن يتجرعها عن طيب خاطر، أو عن ظهر قلب، هو ترامب الذي لم يتغير منذ أربع سنوات، وهو الحزب الجمهوري الذي لا حزب بعده حيث أصبح الحزب والعشيرة والقافلة المتحركة في جميع الاتجاهات.
يفوز ترامب ويخرج الديمقراطيون محملين بهزيمة ثقيلة، وتعود هاريس إلى منزل الزوجية كي تقص على أبنائها وأحفادها “أحسن القصص” بعد النزال العنيف مع ترامب العنيد، أما بايدن فقد آن له أن يستريح، أن يودّع البيت الأبيض ليذهب إلى عطلة طويلة، ينام خلالها كما يحلو له، ويغط في سبات عميق طالما أرقت الرئاسة مضجعه.