“إنَ لربِكَ عليك حقًا، وإنَ لِنَفسكَ عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعْطِ كلَ ذي حقٍ حقَهُ”، هذه العبارة التي قالها الصحابي الجليل سلمان الفارسي – رضي الله عنه - لأخيه أبي الدرداء وأيدها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – قائلا: “إِنَ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًا مِثْلَ الَذِي قَالَ لَكَ سَلْمَانُ”، فدائما ما نسمع هذه العبارات عندما ننهك أنفسنا في الاستذكار أو العمل، فنسمع ممن يحبنا “إن لبدنك عليك حقا”، وهنا يقصد المحب الإنهاك الجسدي والإرهاق العقلي الذي سوف يعترينا من شدة العمل أو الاستذكار. فإذا نظرنا إلى عبارة: “إن لنفسك عليك حقا” و”إن لجسدك عليك حقا” لوجدنا أنفسنا فقط نركز على أجسادنا وننسى أنفسنا، فالنفس كذلك لها حقٌ علينا، فالألم النفسي أشد علينا من الألم الجسدي، فنحن لا نعير الجانب النفسي الكثير من الاهتمام، لذلك مثل ما نريح أبداننا يجب أن نريح النفس كذلك، وأن ننفض كل غبار داخلها باستمرار، وأن نجاهد أنفسنا لتتخلص من كل ألم نفسي ألم بها من أجل أن نعيش في سلام داخلي وخارجي.
مناسبة هذه المقدمة أن أستراليا أصدرت مؤخراً قانونا ينص على أن الموظف يمكنه أن يتجاهل الرد على رئيسه في العمل بعد الانتهاء من الدوام الرسمي. ويبرز موضوع حق الموظف في عدم الرد على مكالمات العمل بعد ساعات الدوام الرسمي كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز التوازن بين العمل والحياة الشخصية. ويهدف هذا القانون أو السياسة التي تتبناها بعض المؤسسات إلى ضمان أن يتمتع الموظفون بوقت كافٍ للاسترخاء والاهتمام بحياتهم الاجتماعية والشخصية، دون ضغوطات العمل المستمرة. ويسعى القانون إلى تعزيز التوازن بين العمل والحياة الشخصية وحماية حق الموظفين في الاستمتاع بوقتهم خارج ساعات العمل الرسمي، ما يتيح لهم فرصة ممارسة هواياتهم، وقضاء الوقت مع أسرهم وأصدقائهم، وتحقيق رفاهيتهم العامة.
وكذلك الإجهاد الناتج عن العمل المستمر، والمكالمات التي لا تتوقف حتى بعد انتهاء ساعات العمل يمكن أن تؤدي إلى الإرهاق والإجهاد، ما يؤثر على الصحة النفسية والجسدية للموظف، ومن هنا يأتي دور القانون في تقليل هذه الضغوطات. ففي العام المنصرم، أظهرت دراسة استقصائية بأن الأستراليين يعملون بمعدل 281 ساعة إضافية غير مدفوعة الأجر سنويا بالمتوسط! والحقيقة أن أستراليا ليست الدولة الوحيدة في العالم تسن هذا القانون، إذ سبقتها دول أوروبية مثل فرنسا، وبلجيكا، والبرتغال، وأسبانيا.
وقد أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يتمتعون بتوازن جيد بين حياتهم المهنية والشخصية يكونون أكثر إنتاجية وأفضل أداءً في العمل، وهذا يعود إلى أنهم يأتون إلى العمل وهم في حالة نفسية وجسدية أفضل، ما يعزز من جودة أدائهم.
وعلى الرغم من الفوائد الواضحة، إلا أن تطبيق مثل هذه السياسات قد يواجه بعض التحديات، حيث إن هناك وظائف تتطلب بحكم طبيعتها تواصلًا مستمرًا حتى خارج ساعات العمل، مثل وظائف الطوارئ أو المناصب القيادية، ما يجعل من الصعب الالتزام بالقانون. ناهيك عن أن بعض المؤسسات قد تكون هناك ثقافة سائدة فيها تتوقع من الموظفين أن يكونوا متاحين في جميع الأوقات، ما قد يتعارض مع هذه السياسة.
شخصيا، مقتنع تماماً بأن هذا القانون سيخلق بيئة عمل أكثر توازنًا وعدالة للموظفين، حيث يمكنهم التمتع بحياتهم خارج العمل دون الشعور بالذنب أو الضغط المستمر. وتبني هذا النهج لا يسهم فقط في تحسين حياة الموظفين فحسب، بل ينعكس أيضًا بشكل إيجابي على المؤسسة من خلال تعزيز ولاء الموظفين وزيادة إنتاجيتهم.
ومن واقع تجربتي الشخصية في مجال عملي السابق الذي استمر 37 عاما، وعملت مع كثير من الرؤساء التنفيذيين ومن مدارس مختلفة، فقد كان بعضهم يؤمنون بأن الدوام الرسمي اليومي لا يمكن اختصاره على 8 ساعات فحسب، بل ضرورة استمراره، ويكون الموظف متوافراً على مدار اليوم والأسبوع! لا شك أن هذا الأسلوب - أو ثقافة العمل - شكل ضغطاً كبيراً على الكثير من الموظفين ولكن كما يقولون “ليست باليد حيلة”.
ونتيجة لذلك أصيب الكثير منهم بأمراض مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم، والسكري والكوليسترول والقولون العصبي وغيرها. فالعمل تحت ضغوطات نفسية وبدنية يؤثر تأثيراً سلبياً على الأفراد، ناهيك عن أنه لا يعطيهم الفرصة والوقت الكافي لمزاولة أنشطتهم الاجتماعية والعائلية والرياضية وغيرها. ما رأيكم؟.
كاتب وإعلامي بحريني