لم أكن أنوي الخروج عن السياق، لكن عندما صرخ المتنبي في وجه كافور الإخشيدي بعد أن علم انشغاله بنفسه وإهماله الرعية: واكافوراه، طارده الاخشيدي حتى لحق به عند حدود العراق ليدفع الشاعر الاستثنائي الكبير حياته ثمنا لشعره.. عندما تذكرت، وتألمت، وحزنت على إمام الشعراء وسيد الحكماء، لم يكن أمامي مفر ونحن نعيش هذه الأيام المباركة إلا أن أخرج عن السياق، أن أهنئ متحفظا، وأفرح بتريث، أن أقضي يوم العيد الذي “بأي حال عدت يا عيد”، بين جدران بيتي، أتابع رمي الجمرات، وطواف الكعبة، ووقفة عرفة، وكيفية قضاء حجاج بيت الله الحرام مناسكهم وهم يخبئون أحزانهم في ملابس إحرامهم، وهم يخفون دموعهم، وهم يهرولون بين الصفا والمروة وفي يد كل منهم زجاجة مباركة من ماء زمزم، كيف أصبحت هكذا في غفلة من السياق، متجولا في عمق ذات السياق، كيف بالله عليكم أهرب من نفسي إلى نفسي، ومن قدر الله إلى قدر الله، كيف كان أهل البيت وصحابة رسول الله ملتزمين بالشعائر المقدسة، وكيف مضينا على هداهم، متوكلين على الله سبحانه، مؤدين فرضنا لنكمل أحد أركان إسلامنا متوكلين عليه وممسكين على الجمر، وواثقين بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، مهما شاب الشعر في الرأس، والروح في البدن.
قررت أن أمنع حزني من التجلي، أو حتى التحلي بالصبر على المكاره، منعت عن الدموع عيني، خالفت كل الظنون وخابت مفاتيح ظني، قررت أن أمنح كل شيء بجواري عطلة إجبارية لمدة دهر من الألم، وعمر من الانكسار، وشتات من المتبقي تحت أنقاض الخطيئة حين يغفر الله لنا كل خطايانا.
صدقت ان قطاع غزة سيعود من جديد، حرا، سليما، أنيقا مثلما كان.
وصدقت أن يعود لبنان إلى أشجار الأرز ليشكو لها أيامه الخوالي في أحضان سعيد عقل، وانسي الحاج، وسهيل ادريس، ويوسف الخال، وخليل حاوي، وشوقي بزيع، وحسن العبدالله، وهم ينشدون مع جورج جرداق وسيدة الغناء العربي تتقدم الخلق جميعا، “بعد حين يبدل الحب دارا، والعصافير تهجر الأوكارا”، صدقت نفسي ان من ضاع من العراق الجريح لم يضع، وما ذهب أدراج الرياح في “الكنانة” حتما سيعود مثلما تعود “العصافير التي هجرت الأوكارا”، “وديار كانت قديما ديارا، سنراها كما ترانا قفارا”، قررت ساعتها أن أغرد خارج السرب، أن أنحاز لقوانين الغربة، أن أنسى ما تيسر، وأعاند كلما ازف الرحيل، وأواجه مصيري حين يهاجمني المساء الحزين، عندما يهدأ اكون، ويجثم الليل، وتموت الحياة، فتخرج الأرواح في هذا الظلام الدامس آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع، وأخرج أنا من خلف سواترها أبايع نفسي لأمتي، وأخرج عن طوع ضلالتي، أشدو منتشيا لكي لا يلومني أحد “إن اتيت الروض يوما لا تلمني، فمن العطر انتشيت، ان جنيت الورد عفوا لا تلمني فعلى الشوك مشيت”.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية